
العربي الجديد-
في خضم انقسامات سياسية عميقة وتحديات متزايدة، تواجه ليبيا حالة من الجمود، تعكس تعقيدات الوضع الداخلي، وتداخلاته الإقليمية والدولية. وبينما تستعد البعثة الأممية لإطلاق جولة جديدة من المشاورات لرسم خريطة طريق سياسية، تطفو على السطح أزمات متعددة تحاصر الأجسام السياسية الرئيسية، من حكومتي طرابلس وبنغازي، إلى مجلس النواب والمجلس الرئاسي، وحفتر، ما يثير تساؤلات حول جدوى أي مبادرة في ظل بيئة مشحونة بالتوترات.
ومنذ نحو ثلاثة أسابيع، تصاعدت حدّة الخلافات بين الأطراف الليبية، بدأت باشتعال الاتهامات بين حكومتي البلاد، في طرابلس وبنغازي، على خلفية إعلان مصرف ليبيا المركزي بيانات الإنفاق الحكومي التي كشفت عن هدر مالي واسع، إذ وجّهت كل حكومة الاتهامات إلى الأخرى، وبرزت قضايا فساد حكومي طاولت مسؤولين بارزين، آخرهم نائب رئيس الحكومة في طرابلس رمضان أبو جناح، الذي قرر النائب العام حبسه، بصفته المكلف بوزارة الصحة أيضاً، على خلفية تورطه في توريد أدوية مخالفة للقوانين.
وفي غضون ذلك، تبادل المجلس الرئاسي ومجلس النواب الاتهامات حول الصلاحيات، إذ أصدر المجلس الرئاسي مراسيم بتجميد قوانين صادرة عن مجلس النواب، ورد عليها الأخير برفضها، لعدم امتلاكه صلاحيات رئاسية لإصدارها، بالإضافة إلى التشكيك في شرعيته من أصله، إذ اعتبر مجلس النواب أن المجلس الرئاسي منتهي الولاية بانتهاء آجال اتفاق ملتقى جنيف، الذي تأسس المجلس الرئاسي بموجبه. ولقاء اتهامات الحكومة في طرابلس لمجلس النواب بتعزيز الانقسام، من خلال شرعنة الإنفاق الحكومي للحكومة في بنغازي، عقد مجلس النواب جلسة الاثنين الماضي، لمناقشة تشكيل حكومة موحدة، لكن الجلسة تزامن مع انعقادها تسريب فيديو صادم لعضو المجلس إبراهيم الدرسي، المغيب منذ نحو عام، والذي ظهر مقيداً ومتعرضاً للتعذيب، وهو يستجدي خليفة حفتر، ونجله صدام للعفو عنه، وسط سخط قبيلته التي طالبت، ومعها منظمات حقوقية، بالكشف عن مصير الدرسي، ما زاد من تعقيد موقف مجلس النواب والحكومة المكلفة منه.
وفي سياق متصل، فجرت تقارير إعلامية غربية تسريباً حول مفاوضات بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومسؤولين ليبيين لترحيل مهاجرين غير مرغوب فيهم إلى ليبيا، ما أثار موجة رفض واسعة داخل البلاد، ودفع كلتا حكومتي البلاد إلى نفي أي اتفاق مع الجانب الأميركي. لكن الشكوك بقيت قائمة حول دور صدام حفتر، الذي زار واشنطن قبل أيام من التسريبات، مما وضع حفتر في موقف حرج، عززه صمتها المريب إزاء الفضيحتين: فيديو الدرسي، والاتهامات بترحيل المهاجرين.
وفيما كان يُنتظر أن يفصح حفتر عن موقفه، ظهر بشكل مفاجئ في موسكو، مصحوباً بنجليه، لحضور احتفالات يوم النصر الروسي، الجمعة (09 مايو 2025م)، حيث حاولت وسائل إعلام ليبية مقربة منه تسويق اللقاء العابر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كـ”استقبال رسمي”، رغم ظهوره في مراسم الاحتفال في الصفوف الخلفية، مع ضباط متقاعدين وملحقين بالبعثات الأجنبية لدى موسكو.
وعلى صعيد التأزيم المتصاعد، فشل المجلس الأعلى للدولة، الشريك الأساسي لمجلس النواب في أي عملية سياسية، في إنجاح مبادرة جديدة لتوحيد المجلس المنقسم منذ العام الماضي، على خلفية عدم القبول بنتائج انتخابات مكتبه الرئاسي في يونيو من العام الماضي، إذ دعا محمد تكالة منافسه خالد المشري، الثلاثاء الماضي، إلى إعادة انتخابات الرئاسة، لكن الأخير وأنصاره لم يستجيبوا، ما جعل المجلس يستمر في حالة الضعف في التعاطي مع أي مستجدات تتصل بالوضع السياسي.
وسط هذه العواصف، جاء إعلان البعثة الأممية، الثلاثاء الماضي، عزمها إطلاق مشاورات خلال “الأيام المقبلة” بين الأطراف الليبية حول مقترحات اللجنة الاستشارية الخاصة بالقضايا الخلافية في القوانين الانتخابية، بوصفها خطوة نحو رسم خريطة طريق لتوحيد المؤسسات وإجراء انتخابات. ويثير الناشط الحزبي جمعة شليبك، شكوكاً حيال المبادرة الأممية، من زاوية أن الوضع الذي تعيشه الأطراف الليبية غير ملائم لأي مشاورات، معتبراً أن الاحتقان بين الأطراف وصل إلى “مرحلة كسر العظم”، بحسب تعبيره.
ويرى شليبك في حديثه مع “العربي الجديد”، أن الحديث عن الانتخابات يُعدّ سابقاً لأوانه، ما لم تعالج جذور الأزمة، خاصة مع تصاعد الاتهامات المتبادلة بين الأطراف إلى حد “الكيد”، إذ يرى أن تسريب فيديو الدرسي في توقيت حساس تزامن مع جلسة مجلس النواب للنظر في تشكيل حكومة موحدة، “لا بد أن طرفاً ما يقف وراءه، وفي مقابله نجد حفتر يستهين بكل شيء، ولا يقيم وزناً حتى لمجلس النواب وحكومته اللتين تعانيان أزمة حادة بسببه، ولا يعير مطالب الليبيين بضرورة تحديد موقفه من قضية الدرسي أي أهمية”، سائلاً: “ما هي جدوى المشاورات في ظل انعدام أي أفق سياسي؟”.
من جهته، يرى الباحث عيسى همومه، أن مشاورات البعثة قد تخفي ظلاً لتحركات خارجية، معتبراً أن “عدم إدراك البعثة للمعطيات على الأرض، خاصة في مستجد الأيام الحالية، أمر غير مقبول، فهي تعرف جيداً حجم التعقيد والتصعيد وأهدافه، وعليه لا بد من القراءة بشكل أوسع”. ويلفت همومه، خلال حديثه مع “العربي الجديد”، إلى أن بيان البعثة أشار بشكل واضح الى عزمها إشراك طيف ليبي في المشاورات بشكل أوسع من الأطراف الأساسية في أزمة البلاد، بوصف ذلك أحد السبل لتجاوز الاحتدام السياسي بين الأطراف المتحكمة في المشهد.
من جانب آخر، يعتبر همومه أن الدعم الأميركي والأوروبي للمبادرة الأممية “غير خافٍ، فالمشاورات المرتقبة قد تكون سبيلاً لإعادة رسم مشهد الفاعلين السياسيين، وهذا يستدعي وقتاً طويلاً يتيح للمشروع الأميركي، الذي يلقى رضى أوروبياً، والهادف إلى بناء قوة عسكرية مشتركة من طرفي البلاد، شرقاً وغرباً، وقتاً مناسباً لتحقيقه، والغرض هنا هو تهيئة الظروف الأمنية المناسبة للانتخابات، وأيضاً التأثير على المشروع الروسي باحتواء حفتر الذي تعول عليه موسكو كشريك أساسي لها”.
ويضيف همومه “من مؤشرات طول فترة المشاورات، إمكانية تعزيز موسكو تحالفها مع حفتر بزيادة دعمه عسكرياً وسياسياً، بما في ذلك تقديم الدعم السياسي لحكومة مجلس النواب التي تمثل لحفتر غطاءه السياسي”.
ويختم همومه إلى أن الأطراف الليبية تحتاج إلى جهود مكثفة لبناء الثقة بينها لبدء حوار حقيقي، بالإضافة إلى تفكيك تضارب المصالح الدولية، وكل ذلك يحتاج إلى وقت أطول مما يمكن تصوره، من خلال إعلان البعثة بدء المشاورات خلال الأيام المقبلة.