العربي الجديد-
يتعاظم صعود أبناء حفتر في المناطق التي يسيطر عليها في شرق ليبيا وجنوبها، ما أثار أسئلة حول ما إذا كان حفتر يحضّر لمرحلة ثانية لتحقيق طموحه في الحكم المطلق بعد فشله في حكم البلاد بقوة السلاح.
ومنذ عام 2022 بدأ أبناء حفتر في تولي قيادة العديد من المؤسسات والمليشيات القوية التابعة لقيادة والدهم، وأولهم صدام، ثالث أبنائه في الترتيب الأسري.
وكان صدام مُنح مطلع 2021 رتبة عقيد، من دون أن ينخرط في سلك الدراسات العسكرية والأمنية، وعُيّن قائداً للواء طارق بن زياد الذي ضم عدداً من مليشيات والده الفارة من عدوانه على طرابلس منتصف العام 2021، وصارت من أقوى الألوية التي تسيطر على بنغازي وما حولها، قبل أن تتم ترقيته إلى رتبة لواء منتصف مايو الماضي وتعيينه آمراً لرئاسة أركان القوات البرية، التي أعاد من خلالها هيكلة عدد من المليشيات القوية تحت إدارته المباشرة، ونشرها في بنغازي ووسط الشمال وفي كامل الجنوب
وبالتوازي برز خالد، رابع أبناء حفتر قائدا عسكريا برتبة عقيد للّواء 106، ثاني أكبر مليشيات والده والمنتشر بين بنغازي والحدود الشرقية الليبية، وانتهى إلى تعيينه آمراً لأركان الوحدات الأمنية برتبة لواء، التي هيكل من خلالها أغلب المليشيات التي تقع تحت سيطرته في أعمال ذات طابع أمني.
ومنذ انخراط خليفة حفتر في العمل السياسي وتقدمه للترشح إلى الانتخابات الرئاسية نهاية العام 2021، برز بلقاسم، ثاني أبنائه مستشارا سياسيا له، وحضر في هامش أغلب المفاوضات السياسية التي تمت إثر انهيار مشروع الانتخابات ممثلا لوالده. كما كوّن بلقاسم ثقلاً كبيراً داخل مجلس النواب بما هو طيف سياسي لعرقلة إنشاء قوانين انتخابية تقصي والده، قبل أن يعينه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، بقرار مفاجئ وبدون موافقة البرلمان رئيساً لجهاز “صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا”، بصلاحيات مطلقة وبدون الخضوع إلى أي رقابة أو محاسبة، وضم إليه العشرات من المؤسسات الحكومية.
تلك هي خريطة توزع مراكز الحكم التي تولاها أبناء حفتر فيما بقي ثلاثة آخرون من أولاده يمارسون نشاطات على الهامش بدون أي أدوار ظاهرة فعلياً، وهم نجله الأكبر الصديق الذي عرف باهتمامه بالأنشطة الثقافية والرياضية، وصلاح المعروف بأنه أحد رموز التيار المدخلي ويدير علاقات واسعة مع قادة التيار المدخلي في جميع أنحاء البلاد، وعقبة الذي لا يزال يقيم في فرجينيا ويدير جملة من عقارات ومشاريع أسرة حفتر الخاصة.
صعود أبناء حفتر
وبرز صعود أبناء حفتر في هذه المراكز منذ العام 2020، عندما بدأ أبوهم يستجمع قوته ويعيد حضوره في المشهد، إثر الانهيار الكبير لقوة مليشياته، بعد تلقيها هزيمة كبيرة جنوب طرابلس خلال هجومها على العاصمة الليبية عامي 2019 و2020، ما تسبّب بتراجع كبير في سيطرته العسكرية التي انحصرت في بنغازي وعدد من المناطق المجاورة لها، وعدة معسكرات في سرت وسط شمال البلاد، والجفرة وسط الجنوب بمعاونة مرتزقة مجموعة “فاغنر” الروسية المتحالفة معه.
بالتوازي مع ذلك، عيّن حفتر الشهر الماضي صهريه باسم الفرجاني وأيوب الفرجاني، وهما من أبناء عمومته، وبرزا خلال السنوات الماضية القريبة قادةً لبعض الكتائب، في مناصب مقربة منه. فالأول آمر لحرسه الخاص، والثاني سكرتير خاص له بديلاً عن خيري التميمي الذي تولى هذا المنصب لسنوات. وعلى الرغم من تقسيم الأدوار هذا، إلا أن أعمال أبناء حفتر الثلاثة تبدو متداخلة، فوحدات الأمن التي يقودها خالد في شرق البلاد تقع بمدينة درنة التي تتركز فيها مشاريع بلقاسم الإنمائية ضمن نفوذه. كما أن خالد على صلة بصدام، إذ تقع طبرق، التي يشرف صدام على نقل أطنان من العتاد العسكري الروسي من خلال مينائها ضمن نفوذه أيضاً، بالإضافة إلى أن مدن مرزق والكفرة وسرت التي زارها بلقاسم، وأعلن فيها عزمه إطلاق مشاريع إنمائية فيها تقع ضمن نفوذ صدام.
إعادة هيكلة خريطة نفوذ حفتر
يلفت أستاذ العلوم السياسية خليفة الحداد، إلى أن حفتر أحدث عدة تغييرات في مواقع أولاده بعد تعيينهم فيها. ويشير إلى أن ذلك جرى ضمن خطط لحفتر لإعادة هيكلة خريطة نفوذه تبعاً للمستجدات والتحولات التي تشهدها البلاد، ومن أبرزها تغيير صلاحيات مليشيات خالد المسيطرة على مناطق شرق بنغازي من عسكرية إلى أمنية، تلافياً لأي صدام مع قبائل أقصى شرق البلاد التي بدا عليها السخط من قبضته العسكرية أخيراً. ويضيف: كما أن حفتر نقل صلاحيات المشاريع الإنمائية والخدمية التي كان يمارسها اللواء طارق بن زياد من خلال جهاز يعرف بـ”جهاز طارق بن زياد للخدمات والإنتاج” إلى نجله الآخر بلقاسم، بتعيينه من قبل مجلس النواب رئيساً لصندوق إعادة الإعمار، مقابل منح صدام صلاحيات عسكرية واسعة للهيمنة على بنغازي ووسط شمال البلاد وكامل الجنوب.
ويرى الحداد، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن هذه التغييرات في مراكز ومفاصل سيطرة حفتر “تغيير استراتيجي” لديه من خلال خطة يديرها بنفسه لتعزيز وترسيخ نفوذه لمراحل مقبلة، وبالتالي فهي ليست نهائية وتتعامل مع المستجدات. ويوضح الحداد أن “خطوة نقل بلقاسم من مستشار سياسي إلى قائد لمشروع إعمار يعكس بوضوح قناعة حفتر بأن العملية السياسية لن يتحقق منها شيء في المستقبل المنظور على الأقل، خصوصاً الانتخابات الرئاسية، التي كان يخطط عبرها للوصول إلى حكم البلاد. والأرجح أن مستشاريه هم من أشاروا عليه بالذهاب إلى بناء قاعدة شعبية، وحشد مؤيدين له من خلال مشاريع الإعمار التي تعد الورقة الرابحة التي تخاطب المواطن بشكل مباشر في ظل الانهيار الخدمي الذي يعانيه”، مشيراً إلى أن المشاريع الخدمية والإعمار رسالة للخارج أيضاً للتأكيد أنه رجل قادر على إدارة الدولة.
ولحفتر، بحسب الحداد، العديد من الأهداف التي يرمي للوصول إليها في ملف الإعمار، ومنها “تهدئة التوتر القبلي في الشرق الذي تحوّل إلى صداع في رأسه. فمنطق المال والاقتصاد والإعمار لغة مناسبة للتهدئة في الداخل، ومن جانب آخر لغة مناسبة لاستدعاء انتباه الشركات العالمية الكبرى التي تمتلك تأثيراً على حكوماتها في الدول ذات الثقل الكبير، خصوصاً التي تولي اهتماماً كبيراً ليس لأموال الإعمار فقط، بل للنفط الذي يسيطر حفتر على منابعه وموانئ تصديره”، مشيراً إلى أن الحكومة التابعة لحفتر شرق البلاد منحت شركات روسية عقوداً لإنشاء مصفاة للنفط في طبرق.
رسالة للمعسكر الغربي
يتابع الحداد: “مثل هذا الإجراء رسالة للمعسكر الغربي المنزعج من التوغل الروسي. فحفتر كما نرى من استقبالاته العديدة لمسؤولين أوروبيين وأميركيين لم يقفل الباب أمامهم. والملاحظ أننا رأينا زيارة معلنة الشهر الماضي من السفير الأميركي (ريتشارد نورلاند) لمدينة درنة التقى خلالها بلقاسم وناقش معه مشاريع الإعمار”. واعتبر أن زيارة بلقاسم إلى مرزق التي تلت لقاءه بالسفير الأميركي وحديثه عن عزمه إطلاق مشروع لإعادة إعمار مرزق مؤشر إلى ارتباط زيارته لهذه المدينة بشراكة اقتصادية مع الجانب الأميركي، الذي أعلن عديد المرات اهتمامه بالجنوب، وتحديداً مرزق، مع القادة السياسيين في طرابلس.
ويرى الحداد أن إعطاء حفتر صلاحيات عسكرية واسعة لابنه صدام في كامل الجنوب وشمال وسط البلاد يهدف إلى “تهيئة هذه المنطقة أمنياً لجعلها قابلة لتنفيذ مشاريع تنموية، بهدف استدعاء انتباه شركات الدول الكبرى. ويجب الانتباه بشكل كبير لغنى الجنوب والسوط بموارد الطبيعة والنفط والغاز وغيرها”. ونفى أن يكون في حسابات القوى الغربية، وعلى رأسها واشنطن، الدخول في مواجهة عسكرية مع الروس الذين يعززون وجودهم العسكري في الجنوب. ويردف الحداد قائلاً: “حتى موسكو تتجه في جزء كبير من خططها للشراكات الاقتصادية مع القادة في الشرق وطرابلس، ومن غير الممكن أن تدخل في مواجهة عسكرية مع الأميركيين والأوروبيين، فما ينشر من تقارير حول نقل عتاد عسكري روسي في مناطق سيطرة حفتر يتجاوز ليبيا، التي لا تشكل للروس سوى نافذة للوصول إلى العمق الأفريقي”.
وضمن التحوّل الاستراتيجي في خطط حفتر، كما يصفه الحداد، يرى أن حفتر “لم يعد يفكر كذلك بمنطق القوة والرغبة في السيطرة على غرب البلاد بالسلاح، بل بمنطق المال ومصادره. فغني عن البيان أنه عقد صفقة مع الحكومة في طرابلس لتولية رجل مقرب منه رئاسة مؤسسة النفط التي لا تدير إنتاج وتصدير النفط، بل تمتلك صلاحيات إبرام عقود الاستثمار الكبيرة مع الشركات العالمية الضخمة. وهو لم يعد يصرح في خطاباته بتصريحات نارية رافضة للحكومة في طرابلس كونه أدرك أنها معترف بها دولياً ويجب استثمار قبولها التواصل معه”. وكان تم تعيين فرحات بن قدارة، أحد الشخصيات المقربة من حفتر، رئيساً للمؤسسة الوطنية للنفط في يوليو 2022 من قبل حكومة الوحدة الوطنية.
صلات بإدارة مؤسسات استراتيجية في طرابلس
وفي المقابل، يقر الناشط السياسي عيسى همومة، في حديث لـ”العربي الجديد”، بأن حفتر بات يمتلك صلات غير مباشرة بإدارة مؤسسات استراتيجية في طرابلس. ويلفت إلى أنه لا يتصل بمؤسسة النفط فقط، بل بالبنك المركزي أيضاً بعد أن أعاد محافظ البنك الصديق الكبير ترميم علاقاته مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، المتحالف مع حفتر، وأصبحت بيانات البنك المركزي مؤخراً تُوافق ضمنياً على استفادة صندوق الإعمار الذي يقوده بلقاسم حفتر من أموال المصارف في شرق ليبيا.
لكن همومة يعتبر، في الوقت ذاته، أن ذهاب حفتر لتقسيم الأدوار بين أولاده يعكس خلافات عميقة بينهم، وأن حفتر يحاول إدارة أزمته الداخلية، مشيراً إلى وجود العديد من المؤشرات السابقة التي أظهرت سعي أولاده للتنفذ كل منهم في مجال على حساب الآخر. ويشدد على أن “حفتر أقصى عدداً من الضباط السابقين وعين أولاده وأقرباءه بهدف تحصين وجوده من أي انقلابات عسكرية. هذا مؤكد لكن ما يجب أن ننتبه إليه أنه عيّن أقرباءه من غير أولاده في الدائرة الخاصة المحيطة به مثل أيوب وباسم صهريه اللذين يبدو أنهما أكثر إخلاصاً له من أولاده، وهو مؤشر يفضي بنا إلى تكهن أن حفتر يخشى انقلابات أولاده أيضاً، خصوصاً صدام الذي مد له في صلاحياته بعيداً عن مركز حكمه في الرجمة شرق بنغازي”
وعن الطابع الاقتصادي الذي بات يغلف أعمال وأشغال قيادة حفتر، فإنه برأي همومة يعكس أزمة مالية يعانيها حفتر استدعت الاستفادة من أوضاع البلاد لفتح مصادر جديدة لتمويل قوته، خاصة بعد أن بات مورد النفط محط أنظار أقطاب الصراع الدولي، وربما تعلن واشنطن وعواصم أوروبية عقوبات على النفط الليبي بعدما ثارت شبهات حول استفادة حفتر من أموال النفط في شراء أسلحة روسية. ويختم همومة بالإشارة إلى أن النزاعات غير المعلنة بين أبناء حفتر زادت من ضيق الخيارات لديه بسبب تورطه في علاقات عسكرية مع موسكو، وسط تنامي مؤشرات القلق الأميركي والأوروبي من هذه العلاقة. ويقول إن “توزيع الأدوار بين أبناء حفتر قد يكون محاولة لإدارة الخلافات بينهم، لكن الأمر لن يطول، فهو رجل في الثمانينات مع عمره وواجه العديد من الوعكات الصحية التي ألزمته الراحة في العديد من المرات”، مؤكداً أن ملامح الانقسام ستزيد وضوحاً بمرور الوقت