العربي الجديد-
اعتادت دولة الاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، على وجه الخصوص، الحفاظ على سرية اللقاءات التي تجريها مع دول لا تربطها بها علاقات دبلوماسية، إلى حين نضج التفاهمات وبلوغ مراحل متقدّمة والتمهيد التدريجي، قبل إعلان أي اتفاق.
لكن في عهد حكومة بنيامين نتنياهو، غير المتجانسة، رغم كونها حكومة يمين كاملة، تغيّرت الكثير من القواعد، كما يبدو، حتى تلك المرتبطة بقضايا حساسة، فكل يغني على ليلاه.
ويشغل عدد من الوزراء مناصب، رأى العديد من المحللين الإسرائيليين أنهم ليسوا الأجدر بها، من بينهم وزير الخارجية إيلي كوهين، “بطل” قضية اللقاء السري مع نظيرته في حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش في العاصمة الإيطالية روما قبل نحو أسبوع، الذي انهالت عليه الانتقادات، بعد كشف الخارجية الإسرائيلية عن اللقاء الذي سبّب تظاهرات في ليبيا ومغادرة المنقوش منصبها والبلد.
حكومة إسرائيلية غير متجانسة
وتشير معطيات كثيرة بوضوح إلى عدم التجانس بين توجهات مُركبات الائتلاف الحكومي بزعامة نتنياهو، وعدم وجود سياسة واحدة متفق عليها، ولا دبلوماسية موحّدة، فضلاً عن التهوّر الواضح، حتى حيال حليف إسرائيل الأول، الولايات المتحدة، التي طاولتها انتقادات كثيرة من قبل وزراء في الحكومة الحالية.
لكن تسريب لقاء كوهين – المنقوش، تجاوز الكثير من الأعراف السياسية، وسبّب فضيحة لإسرائيل، وهزّ ثقة بعض الدول بها، بحسب ما يراه الكثير من المحللين الإسرائيليين.
كذلك فإن ما حدث يعبّر عن عدم احترافية كوهين، وتغليب مصلحته الشخصية على المصلحة الإسرائيلية العليا، وهو الذي عيّنه نتنياهو وزيراً للخارجية لمدة عام واحد، مضى منها نحو ثمانية أشهر.
ويبدو أن كوهين المفتقد للخبرة، لم يكن مدركاً لتبعات البيان، والضرر الكبير الذي سبّبه، ما دفع نتنياهو، الثلاثاء (29 أغسطس 2023م)، إلى إصدار تعليماته لجميع الوزارات الحكومية بالحصول على موافقته، على أي اجتماع سياسي سري مقدماً.
كذلك إن أي نشر حوله سيتطلب موافقته الشخصية. واعتاد نتنياهو في خطاباته الموجهة للإسرائيليين التمهيد لوجود اتفاقيات مقبلة مع دول عربية أو إسلامية، لكنه كان حذراً في ذكر اسمها، حتى يتم الأمر، مثلما حدث في قضية التطبيعمع الإمارات، على سبيل المثال لا الحصر، التي نضجت في السر حتى أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في 13 أغسطس 2020، التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين الدولتين، كان نتاج سنوات طويلة من التنسيق بينهما والتواصل، وتبادل الزيارات.
تفسيرات عدة لسلوك إيلي كوهين
ووجد الكثير من المحللين الإسرائيليين مساحات مشتركة، تفسّر سلوك كوهين، وتشعبوا في أخرى. ورأى الصحافي إيهود يعاري، في مقال نشره في موقع القناة 12، الثلاثاء، أن “نتنياهو عرف مسبقاً أن إيلي كوهين غير مؤهل للمنصب، ورأى ذلك في سلوكه في دول حساسة ومهمة، مثل أذربيجان والسودان وغيرهما. كان بإمكانه على الأقل أن يلزمه بالبقاء في إسرائيل، ووقف رحلاته التي لا نهاية لها حول العالم”.
بدوره، أشار محلل الشؤون الأمنية والاستخباراتية في صحيفة “هآرتس” يوسي ميلمان الاثنين، إلى أن “ممثلين رسميين عن إسرائيل، من الموساد والاستخبارات ومناصب خاصة، يجرون، منذ سقوط القذافي قبل أكثر من 10 سنوات، اتصالات سرية مع الحكومات في ليبيا. ولم يُنشر أي شيء رسمي، حتى لو تسربت هنا وهناك معلومات بشأنها”.
وأضاف: “الآن مع هراء وزير الخارجية إيلي كوهين والمدير العام لمكتبه رونين ليفي، فإن كل هذا الاستثمار الكبير (في الجهود) يمكن أن يذهب هباءً”. ونقل ميلمان عن مصادر إيطالية رسمية، لم يسمها، أن اللقاء في روما كان يجب أن يبقى سرياً، وأن يشكل واحدة من عدة مراحل ستأتي تدريجياً، من “أجل تطبيع العلاقات من خلال خطوات تساعد في بناء الثقة، وهذه الثقة تحطّمت الآن”.
وأشار ميلمان إلى أن جهاز “الموساد” أقام علاقات مع الحكومتين في ليبيا، وأن وقف إطلاق النار “حوّل ليبيا الغنية بالنفط إلى محط اهتمام للمصالح الاقتصادية والأعمال من قبل العديد من الدول، بما في ذلك قطر وتركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والإمارات”.
وأضاف أن “الاستقرار النسبي الذي تحقق في ليبيا، وصعود بنيامين نتنياهو إلى سدة الحكم قبل ثمانية أشهر، أدى إلى توترات بين الموساد ووزير الخارجية كوهين. لقد أخبرني كوهين حينها أنه من الآن فصاعداً سيدير الاتصالات السياسية مع الدول العربية والإسلامية، فيما سيدير الموساد الاتصالات الاستخباراتية والأمنية”.
وأشار ميلمان إلى أن كلام كوهين لم يعجب رئيس “الموساد” ديفيد برنيع، لكنه صمت، معتبراً أن هذا مجرد تفاخر فارغ من قبل كوهين، “لكن كوهين ومديره كان لديهما خطط أخرى. عُلِّق لوح في مكتب الوزير عليه أسماء دول عربية وإسلامية في آسيا وأفريقيا، وُضعت هدفاً لسياسة كوهين، بما في ذلك السودان والصومال والنيجر ومالي وجزر القمر وجزر المالديف والسعودية وليبيا، وحتى الآن لم تقم أي منها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل”.
وتابع: “هذا ما يحدث عندما لا يستطيع هواة يسعون للشهرة الذاتية مثل كوهين وليفي تمالك أنفسهم والحفاظ على السر”.
من جانبه، رأى إيتمار آيخنير، في مقال في “يديعوت أحرونوت” الثلاثاء، أنه يجب عدم التقليل من حجم الضرر بالنسبة إلى إسرائيل، على الأقل في الفترة القريبة، وذلك أنه “سيصعّب على إسرائيل التحدّث إلى دول إسلامية وعربية، في ظل غياب الثقة، التي تلقّت ضربة قوية بعد أن قرروا في إسرائيل إطلاع الأصدقاء على اللقاء التاريخي بين وزراء الخارجية”.
واعتبر أن هذا الأمر “سيدفع قادة دول عربية إلى التفكير ملياً قبل إجراء لقاء سري مع مسؤول إسرائيلي كبير، لأنهم قد يجدون أنفسهم ضمن بيان رسمي تنشره وزارة الخارجية الإسرائيلية، والتعامل بعدها مع تظاهرات غضب في بلدانهم”. وأشار آيخنير إلى الانتقادات التي طاولت كوهين، حتى من داخل الحكومة، واعتبرته غير محترف، محملين إياه مسؤولية توجيه ضربة للعلاقات الإسرائيلية الخارجية والتسبب بأزمة في ليبيا من أجل العلاقات العامة لنفسه، واحتلال مكان في العناوين.
لكنه أشار، في الوقت ذاته، إلى أن “المستفيد الأكبر” من تورط وزارة الخارجية الإسرائيلية في الشأن الليبي، هو “الموساد” الذي “يُعتبر أكثر نجاحاً في الحفاظ على السرية في قضايا مماثلة، ويتنافس مع وزارة الخارجية في الاتصالات السياسية، لتوسيع دائرة علاقات السلام مع دول عربية”. ونقل عن مسؤولين إسرائيليين، لم يسمهم، قولهم إن كوهين “ضحّى بمصلحة الدولة من أجل مصلحته الشخصية”.
وقال مسؤولون في وزارة الخارجية الإسرائيلية من منتقدي كوهين، لموقع “يديعوت أحرونوت” بحسب آيخنير، إن هناك اتصالات سرية في هذه الأيام أيضاً مع دول لا تربطها علاقات بإسرائيل، وأن ما حدث في القضية الليبية يمكن أن يمسّ بثقة الدول بإسرائيل ويعوق التقدّم بالعلاقات.
وأشار إلى أن عدداً من وزراء الحكومة الحالية يشعرون بمنافسة داخلية بينهم، ما يدفعهم إلى سلوكيات وتصريحات بهدف إشغال عناوين في وسائل الإعلام، ومن يمكنه الحصول على عنوان أكبر بشأن الإنجازات في السياسة الخارجية.
ولفت الصحافي والمحلل السياسي الإسرائيلي يوسي فارتر، في صحيفة “هآرتس”، الثلاثاء، إلى أن اللقاءات السرية جزء لا يتجزأ من عمل وزير الخارجية، “لكن المنصب الحساس مُلزم. ويجب أن تكون المصلحة الوطنية فوق المصلحة الحزبية والشخصية”، معتبراً أن كوهين يطمح إلى رئاسة حزب “الليكود” بعد نتنياهو، وفي طريقه إلى ذلك يلحق الضرر بعلاقات إسرائيل الخارجية.
وادعى كوهين أن صحافيَّين توجها له بعد حصولهما على تسريبات، ملمحاً إلى ضلوع جهات إسرائيلية في التسريبات، منها “الموساد”، وأنه لا يتحمل مسؤولية التسريب، لكن الكاتب في “هآرتس” رأى أن عذره ضعيف، وكان بإمكانه عدم التأكيد وعدم النفي.
ويمرّ الطريق إلى رئاسة “الليكود” عبر الناخبين واعتلاء العناوين، ولهذا السبب، بحسب فارتر، يهين كوهين نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، صديقة إسرائيل، قائلاً إنها لا تعرف ما هو الإصلاح (في إشارة إلى التعديلات القضائية)، وللسبب نفسه يطلق تصريحاً مماثلاً فيه استخفاف حيال وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، ويعلن عن اتفاقية سلام وشيكة مع السودان، وهو ما نُفي على الفور، ولذلك أيضاً يتفاخر باللقاء مع الوزيرة الليبية، معتقداً أن كل ذلك سيضيف له نقاطاً في الترشّح المستقبلي.
لكن فارتر خلص إلى أن كوهين ليس الوحيد الذي لا يتحلّى بالمسؤولية، بل هذا ما يميّز الحكومة الإسرائيلية الحالية، مشيراً إلى إطلاق العديد من وزرائها تصريحات مثيرة للجدل حتى تجاه الإدارة الأميركية.