
* كتب/ محمد اللديد،
مؤخراً تغيّر المشهد الجغرافي للهجرة الإفريقية جذريًا، فبينما كانت قوارب الموت المتجهة نحو السواحل الأوروبية ترمز لعقود إلى حلم العبور شمالًا، برزت اليوم وجهة جديدة شرقًا نحو الخليج العربي. هذا التحول يعكس متغيرات اقتصادية وسياسية وإنسانية متشابكة، إذ أصبح الخليج يمثل خيارًا عمليًا للمهاجرين مقارنةً بأوروبا التي أغلقت أبوابها تدريجيًا أمام موجات الوافدين الجدد.
أوروبا انكماش الحلم واشتداد الرقابة
منذ اندلاع الحرب الروسية– الأوكرانية عام 2022، شهدت أوروبا أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة أدت إلى ارتفاع التضخم، وانكماش فرص العمل، وتنامي الخطاب الشعبوي المناهض للهجرة. وتشير بيانات وفق بيانات الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل “فرونتكس” إلى تراجع أعداد المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا في عامي 2023 و2024، بعد تشديد الرقابة على المتوسط والبلقان وتوقيع اتفاقات مع دول إفريقية لاعتراض المهاجرين قبل وصولهم.
إثيوبيا كانت في قلب هذه الترتيبات، إذ وقّعت اتفاق تعاون مع الاتحاد الأوروبي لتسريع ترحيل رعاياها مقابل دعم مالي وتنموي. وبموازاة ذلك، صعدت الأحزاب اليمينية خطابًا يربط الهجرة بالأمن والعبء المالي، ما جعل الوصول إلى أوروبا أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر
تغير المسار ليصبح خليج عدن والبحر الأحمر أحد أكثر طرق الهجرة نشاطًا عالميًا. ووفق المنظمة الدولية للهجرة، تم تسجيل أكثر من 446 ألف حالة هجرة من شرق إفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية عام 2024، غالبيتهم من الإثيوبيين.
لكن هذا الطريق محفوف بالمخاطر فاليمن، الذي يمثل المعبر الرئيسي نحو الخليج، يعاني من صراع مسلح وغياب للدولة، ما جعل المهاجرين عرضة للاستغلال والاحتجاز والتعذيب على أيدي شبكات التهريب، في عام 2024، لقي 558 مهاجرًا حتفهم أثناء عبورهم البحر الأحمر، وتواصلت المآسي في النصف الأول من 2025 بأكثر من 300 حالة وفاة جديدة.
شرق إفريقيا قاعدة الانطلاق
تُعد إثيوبيا وكينيا وأوغندا المصدر الأبرز للمهاجرين نحو الخليج. كثير من هؤلاء يدخلون رسميًا بعقود عمل في قطاعات الضيافة والتجزئة، إلا أن نسبة منهم تتحول إلى وضع غير نظامي بعد انتهاء العقود أو فقدان الوظائف.
أما الصوماليون والإريتريون فيسلكون طرقًا أكثر خطرًا عبر سواحل غير مستقرة أمنيًا، حيث تتداخل المصالح بين المهربين والجماعات المسلحة.
الخليج الوجهة الجديدة
السعودية تمثل الوجهة الأولى للمهاجرين الأفارقة، تليها الإمارات ودول الخليج الأخرى. ففي سبتمبر 2024، ضبطت السلطات السعودية 22 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل، غالبيتهم من الإثيوبيين واليمنيين. كما تم ترحيل 11 ألف شخص خلال أسبوع واحد في مايو 2025، ما يعكس حجم الضغط الأمني والإداري في إدارة تدفقات الهجرة.
ورغم غياب إحصاءات دقيقة في بقية الدول الخليجية، إلا أن قطاعات مثل الأمن، والضيافة، والخدمات تشهد تزايدًا في الاعتماد على العمالة الإفريقية، سواء النظامية أو الخارجة عن الإطار القانوني.
دوافع التحول
العوامل التي دفعت المهاجرين لتفضيل الخليج على أوروبا متعددة وهي: تكلفة الرحلة إلى الخليج أرخص كثيرًا من عبور المتوسط، كما أن سهولة الوصول للحدود البحرية والبرية أقل تشديدًا مقارنة بأوروبا، والأهم هو الفرص الوظيفية فالخليج يستوعب العمالة غير الماهرة في سوق عمل مرن، إضافة إلى أن القرب الثقافي والديني الذي يشجع على الاندماج السريع ويخفف صدمة الغربة.
مستقبل الظاهرة
المؤشرات الحالية توحي بأن الخليج يتحول تدريجيًا إلى الوجهة المفضلة للمهاجرين الأفارقة، لكن استدامة هذا الاتجاه تعتمد على ثلاثة متغيرات أهمها سياسات الخليج تجاه العمالة غير النظامية، واستقرار الاقتصادات الإفريقية وتراجع البطالة، وأخيراً استمرار أوروبا في تشديد القيود الحدودية.
في المحصلة، لم تعد الهجرة الإفريقية حلمًا بقدر ما أصبحت خيار ضرورة. بين خطر الغرق في المتوسط ومخاطر العبور عبر اليمن، يواصل آلاف المهاجرين رحلتهم بحثًا عن الأمان الاقتصادي. ومع غياب حلول تنموية جذرية في القارة السمراء، سيبقى البحر الأحمر شاهدًا على حركة بشرية لا تهدأ، تُعيد رسم خريطة الهجرة الدولية نحو الشرق بدلًا من الشمال.



