DW-
سباق مع الزمن يخوضه مفاوضون ألمان من أجل توفير شروط النجاح لمبادرة المستشارة أنغيلا ميركل بشأن ليبيا. حسم الصراع حول طرابلس عسكريا سيكون كارثيا بمقاييس عديدة، والمبادرة الألمانية يمكن أن تشكل فرصة أخيرة.
“التدخل الأجنبي” كلمة السر في المشهد الليبي المضطرب، ومن مفارقات هذا البلد الشمال أفريقي، أن معظم أطراف الأزمة – إلا ما ندر – يرفضون التدخل الأجنبي لحلها، بينما هم يعتمدون بالأساس على أطراف أجنبية لفرض أنفسهم على الخصوم.
ومنذ شن الجنرال المتقاعد خليفة في بداية أبريل الماضي، هجومه العسكري على العاصمة طرابلس، يظهر المجتمع الدولي حالة انقسام ملحوظة، وهو انقسام يشمل الأطراف الأوروبية أيضا وإن كان يأخذ طابعا مختلفا.
ويمكن رسم ملامح المشهد كالتالي:
أطراف داعمة لحفتر سياسيا وعسكريا، وهي بدرجات متفاوتة: الإمارات، مصر، روسيا.. بينما تتفاوت أشكال الدعم لحكومة الوفاق الوطني، بين تأييد سياسي ينطلق من كونها حكومة معترف بها من قبل الشرعية الدولية، وهو الموقف الذي تصطف فيه دول الجوار الأوروبي والمغاربي وراء الأمم المتحدة. بينما تقدم بعض الدول، وعلى رأسها تركيا، دعما عسكريا معلنا، وذلك لأسباب أيديولوجية وجيواستراتيجية.
ويشكل الارتباك والتذبذب حالة مشتركة في الموقفين الأوروبي والأمريكي.
وفي ظل استعصاء حسم الصراع حول العاصمة طرابلس وارتفاع حصيلة ضحاياه، تتزايد المخاوف من تداعياته – أقلّه – على الطاقة والأمن في الجوار بأوروبا وشمال أفريقيا، اتسمت ردود فعل القوى الأوروبية والأمريكية بسعي بعضها إلى محاولة التأثير في مجريات الصراع من أجل تسريع حسمه. بينما توخى آخرون، بسبب العجز أو لعدم الرغبة بالاستثمار في الصراع الليبي، انتظار أن يرجح ميزان القوى لأحد الطرفين.
صراع دموي متفاقم وأوراق مكشوفة
والآن بعد أكثر من مائتي يوم من هجوم طرابلس، باتت الصورة أكثر وضوحا بشأن أدوار الأطراف الإقليمية والقوى الكبرى وخلفيات تدخلاتها في الشأن الليبي. فالمبادرات الدبلوماسية التي احتضنتها باريس في مايو 2018، تحت شعار “الحوار الليبي” كانت أجندتها الأساسية فرض دور كبير لحفتر في العملية السياسية بليبيا. وأعقبتها مبادرة “حوار” إيطالية في باليرمو في نوفمبر 2018، أغضبت حفتر، وداعميه وعلى رأسهم الإمارات العربية المتحدة التي بادرت بعقد لقاء في بداية شهر مارس الماضي، ولم يمض شهر واحد على فشله حتى انطلق الهجوم العسكري على طرابلس.
ومن علامات العجز الأممي الصارخ في الشأن الليبي، ليس فقط الفشل الذريع لمؤتمر “الحوار الوطني الليبي” الذي كانت تستعد الأمم المتحدة لتنظيمه في أبريل الماضي بغدامس على حدود ليبيا مع الجزائر، وتبخر على وقع هجوم حفتر على طرابلس؛ بل إن الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص غسان سلامة، كانت تمنح غطاءها الأممي على مبادرات “حوار” متباينة ومكشوفة الدوافع والأهداف. فناهيك عن المصالح الجيواستراتيجية المتضاربة بين القوى الإقليمية والعالمية المتصارعة على ما يبدو وكأنها حرب بالوكالة على رقعة شطرنج ليبية، هنالك دوافع أيديولوجية، تحدث عنها غسان سلامة في حوار سابق لـ DW عربية حيث اعتبر أن الخلاف بين دول المنطقة حول أدوار الإسلام السياسي يشكل عقبة رئيسية أمام حل الصراع بليبيا.
ولا تبدو، برأي المراقبين، في الأفق القريب مؤشرات أي نجاح للأمم المتحدة في الملف الليبي، لأن مواقف الأطراف المتدخلة في الأزمة ما تزال متباعدة، والليبيون أنفسهم منقسمون أكثر من أي وقت مضى.
فماذا عسى أن تقدمه ألمانيا بمبادرتها لتنظيم مؤتمر دولي حول ليبيا في الأسابيع القليلة المقبلة؟ وهل يمكنها أن تساهم في خروج ليبيا من النفق الطويل الذي تاهت فيه؟
هل هي الفرصة الأخيرة؟
يبدو أن طول أمد الصراع المسلح الدائر حول العاصمة الليبية، وارتفاع حصيلته الدامية وتداعياته الخطيرة، يغري كل طرف من الأطراف المتدخلة من الجانبين في الصراع المسلح بنهاية قريبة وسقوط وكلاء الحرب المحليين من الجانب الآخر بـ”الضربة القاضية” أو بـ”الاستنزاف”.
ومن مؤشرات ذلك هو ظهور وسائل حربية أكثر شراسة، تزج بها القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الصراع، على غرار ما تقوم به الإمارات ومصر من جهة وتركيا وقطر من جهة ثانية، بحسب تقارير متواترة من ليبيا. بالإضافة إلى موسكو التي زجت، بحسب تقرير لشبكة بلومبيرغ الأمريكية، بمجموعات قتالية تابعة لشركة فاغنر الخاصة التي اعتمدت عليها في صراعات أخرى مثل سوريا.
ويبدو أن المساعي التي تقودها الدبلوماسية الألمانية منذ بضعة أشهر، تتقدم ببطء نحو عقد مؤتمر حول ليبيا، برعاية الأمم المتحدة، ومشاركة معظم الأطراف المعنية بالأزمة الليبية. ومن خلال مبادرتها تريد المستشارة أنغيلا ميركل وقف النزيف الليبي، وتحويل ليبيا من بؤرة للمشاكل والصراعات إلى ملتقى للتوافق الإقليمي والدولي يحقق الاستقرار لأفريقيا وضفتي البحر الأبيض المتوسط.
سباق مع الزمن يخوضه الفريق الدبلوماسي الألماني بقيادة يان هيكر كبير مستشاري الحكومة الألمانية للسياسة الخارجية والأمن، وأندرياس ميشائيليز كاتب الدولة في الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. ذلك أن انتظار حسم عسكري للصراع حول طرابلس، قد تكون نهايته كارثية إذ لن تقتصر مخاطره في حصيلة بشرية فادحة في صفوف المدنيين بالعاصمة ومحيطها التي يوجد بها حوالي ثلث سكان البلد، بل يُخشى أيضا أن يؤدي إلى ظهور صراعات مسلحة أخرى بحكم تعدد القوى المحلية المتصارعة وتنوع مصادر الدعم الذي تتلقاه من داخل المجتمع الليبي، بقواه القبلية وتداخلاتها في الجوار الأفريقي والعربي الشاسع للبلاد.
تكتم وحذر شديد في العاصمة برلين، يحيط بمجريات التحضيرات لهذا المؤتمر، في محاولة لتوفير أقصى شروط النجاح للمبادرة الألمانية التي توصف بـ”الفرصة الأخيرة” للحل السلمي وإيقاف النزيف الليبي. وما رشح عن الاجتماعات التشاورية التي عقدت لحد الآن في برلين مع الأطراف المختلفة، كما سبق أن أوضح ذلك دبلوماسيون لصحيفة “دي فيلت” الألمانية، أن التوصل إلى تفاهم بين محوري الإمارات – مصر وتركيا – قطر، سيشكل خطوة حاسمة نحو نجاح المؤتمر.
لكن مساعي الدبلوماسية الألمانية، تواجهها، برأي خبراء في الشأن الليبي، تحديات أخرى لا تقل صعوبة، بعضها يتصل بالقوى الإقليمية والدولية وبعضها الآخر بتركيبة المشهد الليبي نفسه.
أولها: تقريب وجهات نظر الدول الأوروبية المتضاربة الأهداف والمطامح في ليبيا، وخصوصا فرنسا وإيطاليا. ولدى برلين ما يكفي من المؤشرات لإقناع الشركاء الأوروبيين بخطورة تداعيات الصراع الليبي على مصالح أوروبا.
ثانيها: مهمة قد تكون أكثر استعصاء من الأولى، وتتمثل في كبح اندفاع روسيا نحو الانخراط المباشر في الصراع المسلح، وتحفيز إدارة الرئيس دونالد ترامب على لعب دور “حياد إيجابي” يكون متناغما مع الدور الذي تلعبه ألمانيا. وتشترك القوتان الأعظم في الهدف المتمثل في محاربة التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من ليبيا مركزا إقليميا لها. لكنهما تتصارعان على المصالح في ليبيا، فعين أمريكا على الطاقة الليبية أما روسيا فعينها على ليبيا كموطئ قدم استراتيجي تضيفه إلى ما حققته في سوريا.
ثالثها: تشجيع دول عربية وأفريقية مؤثرة في الشأن الليبي، على غرار البلدان المغاربية والجامعة العربية والسعودية والإتحاد الأفريقي، لمساعدة الأطراف الليبية على اتخاذ مواقف أكثر مرونة. ولا تبدو المهمة على هذا الصعيد سهلة المنال، فعلاقة برلين مع الرياض أحد أكبر المؤثرين – إلى جانب مصر- في النظام العربي، تفتقد للحرارة. أما العواصم المغاربية التي تتفق بشكل مبدئي على رفض هجوم حفتر على العاصمة طرابلس، فيمكن لألمانيا أن تعتمد عليها في مساعيها. لكن تونس والجزائر، تجتازان ظروفا انتقالية تجعل أدوارهما الدبلوماسية محدودة التأثير. كما تراجع دور الرباط التي لعبت دورا أساسيا في التوصل لاتفاق الصخيرات، بسبب حذرها في الفترة الأخيرة إزاء قضية يحتدم فيها الصراع بين القوى الخليجية المتصارعة.
ورابعها: وهي إحدى أعقد حلقات المسألة الليبية، وتتمثل في التعقيدات الشديدة في المشهد الليبي، فمعظم القوى المتصارعة – إلا ما ندر – ترفع شعار رفض التدخل الأجنبي وهي في نفس الوقت تعتمد عليه كسبيل رئيسي لضمان سيطرتها على الطرف الآخر أو على الأقل ضمان بقائها. هذا العامل يجعل مهمة تحييد المواقف المحلية عن مواقف ومصالح القوى الخارجية، أو على الأقل التقليل من شدة تبعيتها، مهمة شاقة، وما يزيد في تعقيد مهمة المفاوضين الألمان، ارتباط الصراع بين الفرقاء الليبيين بطابع شخصي، وخصوصا ما يتعلق منها بدور شخصية حفتر. وكمخرج من الخلافات المتشعِّبة، تبدو فكرة الدفع بنخب ليبية ممثّلة للطيف الليبي المتعدد، تكون غير متورطة مباشرة في الصراع، ورقة مهمة قد تساعد على نجاح سفينة المبادرة الألمانية التي تبحر وسط عاصفة هوجاء وتسعى للوصول إلى بر الأمان.
______________________________________
*نشر على الموقع الاثنين (21 أكتوبر 2019)، أعده “منصف السليمي” وهو صحافي وباحث تونسي مقيم في ألمانيا