الاخيرةالرئيسية

تجربة “ريجيو الإسبانية” – تصميم المدرسة المستدامة

في قلب مدريد، عاصمة إسبانيا، ظهر مشروعٌ تعليميٌّ رائدٌ يتحدّى المفاهيم التقليدية لتصميم المدارس ويقدّم مقاربةً جديدةً للاستدامة. مدرسة “ريجيو” التي انطلقت لتعيدَ تعريف الممارسات المعمارية وتدمج فلسفةً تعليميةً فريدةً تضع الأطفال في قلب رحلة التعلّم، وتجمع التعليم بالابتكار والاستدامة.

بينما تسعى المجتمعات لإعداد الأجيال لمواجهة تحديات المستقبل، يمتدّ دور التعليم أبعدَ من نقل المعرفة التقليدية، فهو ينطوي على تنشئة مفكرين مبتكرين ومواطنين مسؤولين وأفراد واعين بيئيّاً. هذا يعني إيجاد مؤسساتٍ ومناهجَ تعليميةً تعيد تعريف مفهوم المدرسة.

الحقيقة أنّ الأنظمة التعليمية غالباً ما تعاني في محاولاتها تلبيةَ متطلّبات الاستدامة والتعلّم الشامل. فعادةً ما ترتبط حلول الاستدامة والتقنيات المتقدّمة بميزانياتٍ مَهولة، ما يجعلها صعبة المنال لمعظم المؤسسات التعليميّة، باستثناء تلك التي تموّلها حكوماتٌ ذات اقتصاداتٍ قويّةٍ أو شركاتٌ أو منظّمات كبرى.

في جنوبيّ أوروبا مثلاً، ولأنّ الاستدامة البيئية تنطوي في كثيرٍ من الأحيان على استثماراتٍ ماليةٍ أكبر، ثمة حاجةٌ ملحّةٌ إلى وجود مرافق تعليميةٍ فعّالةٍ من حيث التكلفة وصديقةٍ للبيئةٍ في آنٍ معاً. بالإضافة إلى أنّ النماذج التعليمية التقليدية تعجز عن تعزيز الابتكار والتعليم التجريبيّ، وهما عنصران حاسمان لتنمية الأجيال القادمة، التي تتعلّق عليها آمال الاستدامة.

من بين مائات المحاولات والأفكار التي تناولت هذه القضية، برزَ مشروع مدرسة “ريجيو” في العاصمة الإسبانية مدريد، حيث طوّره فريقٌ من المعماريين العاملين في مكتب ابتكار السياسات، على رأسهم المعماري “أندريس جاك،” وفي كلية العمارة والتخطيط والحفظ بجامعة كولومبيا.

أخذَ هذا الفريق على عاتقه تحدّي إنشاء مؤسّسةٍ تعليميةٍ مستدامةٍ تركّز على الطفل وتتماشى مع مبادئ منهج “ريجيو إيميليا”. وهذا الاسم لا يشيرُ هنا إلى المدينة الإيطالية الشهيرة، بل إلى فلسفةٍ تربويةٍ عميقةٍ تقوم على التجريب والاستكشاف، طورها “لوريس مالاجوزي،” الذي كان مقيمًا في ريجيو إميليا بإيطاليا. ترى هذه المنهجية الأطفال محورَ عملية التعلّم، وتعترف بهم أفراداً قادرين ومتمتّعين بفضولٍ فطريٍّ وقدراتٍ إبداعيةٍ وابتكاريةٍ لا حدود لها، وتفتح لهم آفاق التعبير الذاتيّ والتفاعل مع بيئاتهم والاستلهام منها.

بدأ العمل على المدرسة في العام 2020، لتُفتَتَح في خريف العام 2022 بمشاركة علماءٍ في مجالَي البيئة والتربة. صُمِّمَ المبنى من ستة طوابق تتناسب مع مناخ مدريد، وتميّز بعناصر مبتكرة مثل الجدران المغطّاة بطبقةٍ سميكةٍ من الفلين العازل والنوافذ ذات الفتحات والأسقف مميزة الشكل والتصميم. كما ضمّت القاعات حدائقَ داخليةً مُدمَجة وخزّانات للتربة والمياه المُستصلَحة وأماكنَ للحيوانات والحشرات، وذلك لإنشاء اتصالٍ بين الأطفال والطبيعة.

وفقَ هذا التصميم، استغنى المشروع عن الميزات غير الأساسية مثل الأسقف المنسدلة والواجهات المهوّاة، فاستخدم مواد أقلّ بنسبة 48% وطاقةً أقلّ بنسبة 33%، وشيَّد مبنى حيادياً تاركِاً للمكوِّنات التشغيلية المرئيّة تحديدَ جمالياته، واعتمدَ الأقواس والفتحات والتسليح الفولاذيّ المدمَج لتقليل الاعتماد على الخرسانة وجَعْلِ المبنى صديقاً للبيئة.

كما جهز المبنى بدون ممرّات، فيما ترمز واجهته الخالية إلى التحوّل المستقبليّ. وهو يعطي الأولوية للتعلّم التجريبيّ والمستدام ولمنظومةٍ تعليميةٍ تتعايش مع محيطها.

على امتداد عامَي العمل، واجه المشروع عدّة عقبات، من أبرزها تحدّي تكاليف المواد. ففي جنوبيّ أوروبا، عادةً ما تتطلّب التصميمات المستدامة بيئياً ميزانياتٍ أكبر. وقد اختار أصحاب المشروع معالجة الأمر من خلال تغيير طريقة التفكير، لا سيّما أنّه مدعومٌ بتمويلٍ خاصٍ من قبل داعمين لمبدأ ريجيو. على سبيل المثال، لجأ المهندسون إلى تقليل سُمْكِ الإسمنت وكميّته، والبناء عمودياً لا أفقياً، والاستغناء عن الأسقف المستعارة، وتعويض المساحة المحدودة بتصميم مناطقَ متعدّدة الأغراض.

في سياقٍ آخر، ما يزال تطبيق منهج ريجيو إيميليا، وعلى نطاقٍ واسعٍ، تحدّياً لا يُستهان به. ففي مجتمعٍ يغلب عليه الطابع الكاثوليكيّ، يتأثّر التعليم العام بالتمويل الحكوميّ. وعليه، فهذا المنهج المختلف يواجه قيوداً بسبب محدوديّة الوصول إلى التعليم في السنوات الأولى، وهذا بدوره يرجع إلى ارتفاع رسوم تعليم الأطفال في سنّ الثالثة وما دون. لكنّ مقاربةَ هذا التحدّي ممكنةٌ من خلال تبنّي أسلوب إدارةٍ أكثرَ تشاركيّةً وديمقراطيّةً داخل المؤسسات.

خلال العامَين الأوّلَين من عمر المشروع، أظهرت الدراسات الفوائد التي يحظى بها تلاميذ مدارس منهج ريجيو إيميليا بسبب تحرّرهم من الخلفيّات الاجتماعية والاقتصادية، وبفضل المنهج الذي يعزّز التعاون والمهارات الاجتماعية وغرس الشعور بالانتماء للمجتمع والقدرة على مواجهة التحديات بين التلاميذ.

على الصعيد الدوليّ، طُبِّقَت مبادئ منهج ريجيو إيميليا في بعض حضانات هانوي، عاصمة فيتنام، ورغم المؤثرات الخارجية، فقد بشَّرت الأبحاث بتنفيذٍ فعّالٍ وقابلٍ للتحقيق.

ومن خلال تنامي الوعي وزيادة الدعم لمثل هذه المبادرات، يمكن توسيع نطاق هذا المبدأ أكثرَ فأكثر، لبناء جيلٍ عالميٍّ من المتعلِّمين المبتكِرين والواعين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى