تبدأ من ليبيا والسودان.. ما قصة “الكونفيدرالية الإفريقية” التي تزعم أمريكا أن فاغنر تخطط لها؟
عربي بوست-
تزعم أمريكا أن مرتزقة فاغنر يخططون لتأسيس كونفيدرالية تضم دولاً إفريقية، من ليبيا والسودان حتى وسط إفريقيا، تكون منطقة نفوذ خاضعة لروسيا، فما مدى واقعية هذا السيناريو؟
تشير التقارير الغربية إلى أن مجموعة فاغنر، التي يديرها أحد رجال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المقربين، قد حققت وجوداً راسخاً في دول مثل مالي والساحل الإفريقي، وذلك بعد تدخلاتها في ليبيا وإفريقيا الوسطى ودول أخرى، أحدثها السودان.
وتتحدث التقارير الغربية حالياً عن وجود آلاف المرتزقة من مجموعة فاغنر الروسية ينشطون في عدة دول إفريقية. ففي جمهورية إفريقيا الوسطى على سبيل المثال، يدعم 1890 “مدرباً روسياً” القوات الحكومية في الحرب الأهلية المستمرة، وفقاً للسفير الروسي. وفي ليبيا، يُعتقد أن ما يصل إلى 1200 من مرتزقة فاغنر يقاتلون إلى جانب حفتر. ووفقاً لمراقبين، فإن المجلس العسكري الموالي لروسيا والمناهض للغرب في مالي قد جلب أيضاً مئات من مقاتلي فاغنر إلى البلاد.
حقيقة أم مزاعم تروِّج لها أمريكا؟
لكن موقع The Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً عنوانه “مزاعم أمريكية بأن فاغنر الروسية تخطط لإنشاء اتحاد من دول إفريقية”، انطلق من تقرير نشرته صحيفة The Washington Post الأمريكية يوم 24 أبريل الماضي بشأن الأوضاع في تشاد، الواقعة في وسط إفريقيا، نقلت فيه عن وثائق حكومية أمريكية مسربة ودبلوماسيين غربيين لم تكشف عن هويتهم، أن مجموعة مرتزقة فاغنر الروسية -التي صارت وسيلة رئيسية لنقل النفوذ الروسي إلى إفريقيا- تهدد استقرار تشاد من أكثر من جهة.
وكانت صحيفة أمريكية أخرى، وهي The Wall Street Journal، قد تحدثت في فبراير عن مؤامرة مزعومة تنسجها فاغنر ضد حكومة تشاد، إلا أن وثائق الاستخبارات المسربة التي استدل بها تقرير The Washington Post تعرض صورة أكبر لطموحات فاغنر التي ادعتها التقارير الأمريكية. وتزعم إحدى الوثائق أن مجموعة فاغنر تسعى إلى إنشاء “(اتحاد كونفيدرالي) يجمع عدة دول إفريقية ويمتد من غينيا إلى إريتريا”.
وقدَّمت “واشنطن بوست” الموقف في تشاد على أنه معضلة تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، فهي في حيرةٍ بين دعم النظام العسكري الاستبدادي في تشاد -الذي لا يردعه شيء عن قتل المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية، وقد فعل ذلك في قمع الاحتجاجات المناهضة للحكومة في أكتوبر 2022- من جهة، وبين الضغط على النظام في تشاد من أجل إصلاح السياسات ومحاسبة المخالفين، من جهة أخرى، ومن ثم المخاطرة بخسارة الولايات المتحدة علاقتها مع أحد أبرز حلفائها في إفريقيا.
مع ذلك، شكك بعض الخبراء في هذه التصورات، لا سيما وأن الصحيفة الأمريكية تقاعست عن التحقق مما إذا كان المسؤولون الأمريكيون يبالغون في تقدير النفوذ المزعوم لمجموعة فاغنر في تشاد، وفي إفريقيا عموماً، بحسب تحليل موقع Responsible Statecraft.
فعلى الرغم من أن “فاغنر” قد توغلت بقوة في مناطق متعددة في القارة الإفريقية وصار لها نفوذ واضح في بعض المناطق – مثل مالي وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى- فإنها ليست محصّنة كما قد يبدو في الوهلة الأولى، وأقرب دليل على ذلك الهجوم الذي تعرض له معسكر روسي في مالي مؤخراً، بحسب الأخبار الواردة عن سكان محليين.
وفي الوقت نفسه، فإن بعض الحكومات الإفريقية التي أبدت من قبل رغبتها في التعاون مع “فاغنر” لا تزال تتحرك بحذر في هذا السياق، لأنها تدرك جيداً السمعة السيئة التي تلحق المجموعة وأنشطتها. فعلى سبيل المثال، لم يتضح حتى الآن ما إذا كان الحكام العسكريون في بوركينا فاسو عازمون حقاً على المضي قدماً في خطط استدعاء مرتزقة فاغنر، رغم أنه قد مر عام كامل، أو يزيد، على توارد الشائعات التي نقلت تلك المزاعم.
هل تلعب “فاغنر” دوراً رئيسياً في اشتباكات السودان؟
واقع الأمر أن واشنطن تميل ميلاً واضحاً إلى المبالغة في دور فاغنر في كثير من النزاعات. ومثال ذلك، أنه ما إن اندلع في السودان النزاع الداخلي بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان، إلا وتوالت التقارير الأمريكية المثيرة تتداول المزاعم عن أن روسيا ضلع رئيسي في الصراع بالسودان.
في المقابل، فإن بعض الخبراء البارزين في السودان وليبيا (التي زعمت التقارير الأمريكية أن قوات فاغنر تتخذها قاعدة للخوض في النزاع السوداني) قد شككوا في هذه المشاركة المزعومة لفاغنر، وأشاروا إلى غياب الأدلة القوية على المزاعم بشأن تحركات المرتزقة الروس.
وعلى الرغم من أن الصراع في السودان لا يزال في مراحله الأولى ولا تُعرف مآلاته بعد، وقد كان الدافع المباشر له هو مخطط مدعوم من الغرب لإعادة تنظيم القوات المسلحة، فإن التقارير الأمريكية أخذت تقدِّم النزاع في السودان من منظور الدور المزعوم لفاغنر فيه، حتى إنها صوّرت الصراع برمته على أنه جزء من “الحرب الباردة الجديدة” بين الولايات المتحدة وروسيا.
وقد تغافلت هذه الرؤية عن أخطاء الدبلوماسية الغربية التي كان لها نصيب من التمهيد للصراع في السودان، فضلاً عن مشهد الدول الغربية وهي تبذل جهدها لإنقاذ دبلوماسييها وإخراج مواطنيها من السودان، في الوقت الذي لا تفعل فيه إلا أقل القليل مما تستطيعه لمساعدة الشعب السوداني.
كانت مجلة Foreign Policy الأمريكية قد نشرت تحليلاً لها بعنوان “السياسات الأمريكية، مهّدت الطريق للحرب في السودان”، رصد كيف فوّتت واشنطن وحلفاؤها الغربيون الفرصة على السودانيين الطامحين إلى التخلص من الحكم العسكري، من خلال التركيز على المصالح الغربية الضيقة في اللحظات الحاسمة.
وكان السودان قد شهد انفجار الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبدالفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
هل تبالغ أمريكا “عمداً” بشأن دور فاغنر في إفريقيا؟
وبالعودة إلى موضوع تشاد -التي زعمت التقارير الأمريكية أنها دولة أخرى في “الحرب الباردة الجديدة”- فإن الوثائق الأمريكية المسربة والدبلوماسيين المجهولين يتحدثون عن تهديدات محدقة بنظام محمد ديبي، منها انقلاب من الداخل، أو عبور المتمردين إلى تشاد من أحد جيرانها، خاصة ليبيا أو جمهورية إفريقيا الوسطى أو السودان. وزعمت صحيفة The Washington Post أن “مجموعة فاغنر شبه العسكرية لها علاقات مع جيوش هذه الدول أو ميليشيات نشطة في كلٍّ منها”.
تفتقر التقارير الأمريكية إلى الاطلاع التاريخي المعمق على تاريخ تشاد، فقد واجهت تلك البلاد موجات متكررة من التمردات منذ ستينيات القرن الماضي، علاوة على الانقلابات الدورية منذ السبعينيات.
وقد وصل ديبي نفسه إلى السلطة بانقلاب، تحايل فيه على الإجراءات الدستورية لفرض نفسه مباشرة على الحكم بعد وفاة والده ادريس ديبي (الذي تولى السلطة بالقوة في عام 1990)، متأثراً بجراحه في هجوم شنه متمردون عام 2021. في المقابل، فإن الحكومات الغربية ووسائل إعلامها ستضع أي اضطراب سياسي قادم في تشاد في إطار يجعله أحد نتائج تدخلات فاغنر، وتتجاهل تاريخ البلاد الحافل بالاضطرابات قبل زمن طويل من إنشاء فاغنر.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال واشنطن تستخدم خطاباً شديد التناقض فيما يتعلق بمجموعة فاغنر والديمقراطية والانقلابات في إفريقيا. فهي تزعم طوال الوقت أنها ترفض الانقلابات لأنها تقوض الديمقراطية، ومع ذلك فإنها تتغاضى عنها إذا ارتأت أنها تخدم مصالحها. ثم تعود وتستنكر الانقلابات وتراها أمراً خطيراً إذا تبين أن خصومها (مثل فاغنر) قد يستغلونها.
والحقيقة أن المخاوف المزعومة بين المسؤولين الغربيين بشأن اضطراب الأحوال في تشاد ليست مقنعة، لا سيما وأن الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا، حسمت موقفها منذ البداية بدعمِ نظام ديبي الجديد (رغم أنه جاء بانقلاب على السلطة).
والسؤال البارز هنا: هل واشنطن حريصة على رفض الانقلابات حقاً؟ فالواقع أن الولايات المتحدة تغاضت بطريقة أو بأخرى عن الانقلاب الذي وقع في السودان قبل عام ونصف فقط.
والحقيقة أن الأمر الثابت بين كل هذه المزاعم عن “حرب باردة جديدة”، هو أن سياسة الولايات المتحدة تجاه إفريقيا لا تزال تعج بالتناقضات، فالولايات المتحدة تتبنى بعض الأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا، وتتجنب أنظمة أخرى؛ وتبالغ في مساوئ بعض الأنظمة وتستهين بجرائم أنظمة أخرى؛ وترى القارة -على تنوعاتها- بنظرة إيديولوجية تشوه الحقائق المحلية؛ وتتجاهل طوال الوقت معظم التحديات الملحة في القارة، وعلى رأسها التصدي لجرائم الاضطهاد والانتهاكات التي يرتكبها بعض أبرز حلفاء أمريكا.