
* كتب/ عبدالحميد محمد جبريل،
الجيد هو إقرار لجنة التحكيم بضعف العروض، أما ما ليس بالجيد فهو أن تُوزع أغلب جوائز المهرجان على سبيل الترضية، وفي الوقت ذاته تُحرم وتُظلم أفضلُ العروض في تقديري من أي جائزة، مثل مسرحية (أهل الخفاء) التي قدمتها فرقة المسرح الوطني بنغازي، وكتبها خالد نجم عن قصة الربة الحجرية لإبراهيم الكوني، وأخرجها خالد الأوجلي.. فهذا العمل لم يكن نمطياً كبقية الأعمال الأخرى، وهو يحمل في داخله قضية ذات بعدين إنسانيين في شكل طرحها، وهما البعد الواقعي والبعد الرمزي لهذه القضية.
أما البعد الواقعي فهو يطرح صراعا للإنسان مع محيطه، أو حتى داخل كوامن نفسه، والصراع لم يكن مع شياطين الجن وحدهم، بل إنه كان مع شياطين الإنس بالدرجة الأولى، وقد ترك الكاتب كما ترك المخرج حرية تفسير ذلك للمتلقي وحده، دون توجيه أو تحفظ، بعد أن حافظ العمل في مسيرته أثناء العرض على بنائه الدرامي وطريقة تسلسل الأحداث ونموها وتطورها، رغم أنه كان يحمل غموضاً، ولكنه كان غموضاً بناءً في البعد الرمزي كما جاء على لسان (شاوش الحضرة) في المسرحية حيث يقول، (ما فيش كلمة ماليهاش معنى.. كل كلمة ليها معنى).. فهو يشير إلى الصراع مع السلطة دون تحديد من هي هذه السلطة، والمقصد أي سلطة بداية من سلطة القبيلة، وترك التفسير أيضا للمتلقي وحده دون أي تدخل في توجيه رأيه وتكوين قناعاته.
لقد أجاد الكاتب صياغة نصه بمهنية عالية، ولم يضيّع سرديته، محافظاً في الوقت ذاته على البناء الدرامي وتسلسل وتطور الحدث ونمو الشخصيات من البداية الى النهاية، ثم جاء المخرج وقدم لنا صورة غير نمطية، من حيث الشكل لهذا العرض بأدوات بسيطة، ولكنها وُظُفت توظيفاً جيداً لصالح العرض، وشكّل بها لوحة مكتملة تجمع بين الإضاءة والملابس والألوان والرقصات، وتوظيف التراث على طريقة (الحضرة) وبيئة الصحراء المتقدة بالجمال، لقد خالجني إحساس على امتداد زمن العرض، كأنني أشتمّ عبق الصحراء في متابعة متزامنة للأحداث على مدى ساعة كاملة بلا ملل، دون أن أغادر مقعدي، وكأنني أشاهد عرضاً سينمائياً يثير الدهشة.. فهو عرض غير نمطي كما ذكرنا، ولا يسمح للمشاهد بأن يجعل ذهنه ينساه بعد نهايته، ولا يتركه إلا بعد أن يزرع في داخله أكثر من سؤال وسؤال، ويترك له وحده حرية الإجابة على كل سؤال. وفي تقديري أن هذا العمل الذي ظُلم ظلماً واضحاً، يمكن أن يستحق جائزة العرض المتكامل، إلا إذا كان للجنة التحكيم رأي آخر قد يكون وجيهاً أولا يكون، يحجب عنه مثل هذه الجائزة.
عرضان آخران جيدان، كانا في مستوى واحد تقريباً، وقد لامسا قضايا الوطن وجروحه: العرض الأول (يرحمكم الله)، لفرقة عامر الحجاجي، والنص لنزار الحراري، والإخراج لأنور البلعزي، والعرض الثاني (بث مباشر) كان لفرقة زوايا المسرح بنغازي، والنص والإخراج كان لمحمد الصادق.
وربما جائزة النص هي التي كانت يجب أن تذهب إلى نزار الحراري، وجائزة الإخراج هي التي كانت يجب أن تذهب لمحمد الصادق، في هذين العملين تحديداً، رغم الجهد المُتميز والواضح الذي بدله أنور البلعزي في إخراجه لعرض (يرحمكم الله)، والذي تخلله عنصر التطريب والغناء، وتوظيفه الإخراجي الجيد لامتداد الضلع الرابع حتى آخر الصالة في عرض (يرحمكم الله).
أما عرض (بث مباشر) فقد ترابط محتواه الدرامي، وسار في بعدينِ متوازيينِ، وهما البعد الدرامي الواقعي والبعد الرمزي حتى نهاية العرض، دون أن يلتقيا أو يرتبطا ارتباطاً جيداً بين بعضهما البعض، كما أن الفنان علي الشول صاحب الأداء الشامل بين التمثيل والغناء، حيث تبدو ملامح الخبرة واضحة في أدائه خلال عرض (يرحمكم الله) هو في تقديري، الأولىَ باستحقاق جائزة الممثل الأول مناصفة مع الفنان عيد سعيد في عرض (بث مباشر) أما،، سلوى المقصبي،، في عرض (بث مباشر)،، وبسمة الأطرش،، فقد نالتا الجائزة الأولى في التمثيل، مناصفةً عن استحقاق واضح لا لبس فيه، وكانت لجنة التحكيم موفّقة جداً في إسناد جائزة أفضل ممثلة مناصفة بينهما.
وقبل الختام جاء عرض مسرحية (على كيفها) لفرقة (غفران) بطرابلس، من بطولة الفنانة خدوجة صبري،، والفنان صالح بو السنون،، تمثيلاً ونصاً وإخراجاً، ليقدم لنا لوناً جميلاً آخر من البهجة، ينزع إلى البساطة والواقعية، ويطرح قضية من القضايا التي تلامس المجتمع مباشرة، وقد تخللته بعض الأغاني الجميلة المصاحبة للبناء الدرامي فيه، وأعتقد بأن هذا العمل الجميل المختلف نمطياً قد أخرجنا من العتمة والرتابة التي مُورست علينا طيلة أيام المهرجان، فهو لا يتشابه مع بقية العروض الأخرى التي كانت في أغلبها متشابهة، ولكنه أيضا لم يأخذ حقة في الوصول إلى أي جائزة، عدا جائزة الملصق الدعائي للمسرحية وهو يستحق أكثر من ذلك.
الاختصار والخلاصة :
إن المسرح الليبي بعيون المراقب الحالي، ووسط عشرات الآلاف من القضايا التي يعيشها المجتمع، من انقسام سياسي وتفكك اجتماعي واقتصادي وخلل بنيوي في نسيج الوطن، اتضح بأنه يعيش غربة واضحة داخل هذا الوطن، وهو منفصل تماماً عن التعامل مع هذه القضايا الجوهرية التي تمس حياة الناس في كل يوم، ونحن أحوج ما نكون إليه في هذه المرحلة للتعامل مع مثل هذه القضايا المصيرية في تاريخنا المعاصر.



