
* كتب/ عبدالحميد محمد جبريل،
أقرت لجنة التحكيم الخاصة بعروض المهرجان، بضعف مستوى العروض المشاركة فيه عند بداية نهاية إعلان نتائجه في اليوم الأخير، ولكنها في تقديري رغم إقرارها بذلك، قد وقعت هي الأخرى ضحية لهذا الضعف على حساب الهدف الحقيقي المراد، وأذعنت لخلاف ما أعلنت.
بعد أن منحت أربع جوائز دفعة واحدة لأضعف العروض تواصلا وإيصالا، والتي قُدمت خلال هذا المهرجان، وكانت من أهمها وأخطرها جائزة الإخراج المسرحي، التي مُنحت في تقديري بشكل غير صحيح لهذا العمل، ومجانب للصواب، وأقصد هنا بكل وضوح، العرض الذي قدمته, فرقة المسرح الوطني بالخمس, وكان موضوعه, “أصحاب السعادة”، فالمسرح ليس مجرد استعراض أو إبهار بأدوات العرض المعروفة، من إضاءة وتمثيل وموسيقى وغيرها من بقية الأدوات الأخرى، بلا مضمون يلامس قضايا الناس وهمومهم الحقيقية، ولا يجد المتلقي فيه ما جاء بسببه ومن أجله، وصرف وقتاً لمشاهدته ودون وجود موضوع متماسك يمكن أن يطرح ليتفاعل معه.
إن مثل هذا العرض لا يفتقد إلى القضية المطروحة والموضوع الذي يهم الناس فقط، بل إنه كان فاقداً للبناء الدرامي السليم والوصول إلى الحبكة الدرامية، وتطور الحدث واستمرار التواصل مع جمهوره دون انقطاع، مثله مثل بقية أغلب العروض الأخرى، التي قدمت في المهرجان، وهو شرط لازم وضروري لنجاح أي عرض، ويعد من أبجديات العمل المسرحي التي لا يمكن الاستغناء عنها، أو إهمالها بأي شكل من الأشكال مهما تطورت الوسائل والأدوات، ولغة الخطاب التي يقام ويقدم بها أي عرض ناجح.
وقبل أن أقوم من مقعدي عندما بدأ الملل يتسرّب إليّ من الدقائق العشر الأولى لهذا العرض، وشعرت بفقدان التواصل معه، كان يجلس بجواري صديق قديم وصاحب تجربة مسرحية كبيرة وخبرة طويلة في هذا المجال، فهمست له في أذنه بسؤال.. هل فهمت شيئا؟ .. أجابني وبوضوح، لم أفهم شيئا، وبعد ربع ساعة تقريبا لاحظت أن البعض في الصالة يصفق والبعض الآخر يخرج من أبوابها بعد أن أصيب بالملل، فقررت الخروج مع هذا الفريق، لكن الذي لم أفهمه بالتحديد هو ظاهرة التصفيق للعرض الفاقد لآليات التواصل الأساسية مع جهوره..
هل كان هذا التصفيق احتجاجاً على العرض أو إعجاباً به من قبل نفر من الناس ربما تمت دعوتهم للحضور مجاملةً؟ ومباشرةً وأثناء انعقاد الندوة لاحظت فيها جمهوراً مترصداً أعلن فيه شكره وامتنانه ومديحه واستحسانه لهذا العرض، وفي الاتجاه المعاكس وربما كنت وحدي تقدمت وأعلنت موقفي الواضح الصريح منه، وأعلنت بأنني لم أفهم منه شيئا، وأنه لم يصلنِي منه شيء على الإطلاق، وهو ما لم يعجب بعض المترصدين الحاضرين للندوة، وكررّت السؤال بشأن عدم فهمي على أكثر من شخص في مراتِ متفرقة وعديدة.. ماذا فِهمتَ من هذا العرض، فصَمت البعض أو أجاب الآخر بأنه لم يفهم شيئاً هو الآخر، إن هذا العرض شأنه شأن أغلب بقية العروض الأخرى، يذكرني بمن يسمون أنفسهم كتّاب الشعر الحر، الذين ادعوا الحداثة في كتابة الشعر بعد أن صادروا أوزان القصيدة، وقالوا بأشياء وشعوذة في المسرح أيضاً، ولم يقولوا بها شيئاً على الإطلاق، وعليه فإن مثل هذا العمل لا يمكنه أن ينتمي إلى المسرح كوجود بهذه المعايير المبتورة، قدر انتمائه إلى أقنعة الزّيف باسم المسرح.. وقد اخترت أن أتحدث عنه ليس لأنه يستحق الحديث، بل لأنه قفز إلى الجوائز التي لا يستحقها، لأن مستواه لا يقل في التدنّي والهبوط عن بقية العروض التي لم ينلها حظ من هذه الجوائز، أو بعض العروض التي قد نالتها ولا تستحقها هي الأخرى، وهو أيضا لا يمنع من الحديث عن العروض التي نجحت في الوصول إلى قلب المتلقي وعقله، واستحقت ما نالت من فوز، وأخرى تعرضت لوقوع إجحاف واضح عليها أثناء عملية التحكيم، وهو ما سوف أتركه للحلقة الأخيرة.
غير أنني قد أشرت في الجزء السابق من المقال إلى أنني سأعرض حلاً يمكن أن يكون صالحاً في مسائل التحكيم، ورصد قيمة جوائز المهرجان مستقبلاً، حتى نتخلص ولو قليلاً من هذا الترصد والحرج الذي يقع في نهاية كل مهرجان، والذي يكاد يصبح إرثا ثقافياً سيئاً، وذلك بالبحث عن معايير موضوعية أثناء عملية التحكيم، بعيداً عن الانطباعات والآراء الشخصية.
وأساس البداية كمقترح لذلك بأن تُصرف قيم مالية لكل المشاركين في العروض المسرحية بشكل مقبول وعادل، والاكتفاءِ فقط بتمييز المتفوقين في جميع عناصر العرض المسرحي بدروع أو ميداليات خاصة بهذا التمييز.
وقبل أن أختم هذا الجزء من المقال، فقد لاحظنا أن أغلب أعمال الفرق المسرحية وعروضها تُتقمص فيها أدوار النساء من قبل الرجال بلا مبرر أو سياق درامي يقتضي ذلك.. إن هذا الأمر يذكّرنا بالبدايات الساذجة للمسرح الشكسبيري في العالم، أو بدايات المسرح العربي مند حوالي قرنين من الزمان، أو حتى في بداية المسرح الليبي منذ حوالي أكثر من قرن ونصف، عندما كان الغُلمَان المُرد يتقمصون أدوار النساء، بل أن أحد المشاركين في هذه الدورة قد فاز بجائزة الممثل (الصاعد) بين قوسين، وهى ردة ثقافية ورجوع كبير جداً وواضح إلى الوراء لا يبشر بصورة مشرقة للمسرح الليبي.
يتبع ………..)



