الرئيسيةعيون

بعد عام 2011، وقفت الولايات المتحدة على الحياد – والضرر يطال ليبيا

 

على الرغم من الفرص الكثيرة التي أهدرتها واشنطن في الماضي للقيام بعمل دبلوماسي بثمن زهيد، إلّا أنه ما زال بمقدورها فعل الكثير لمواجهة الوجود الروسي المتزايد في ليبيا وأفريقيا.

في المجلد السابق حول الجهات الفاعلة الأجنبية في ليبيا، قمتُ بتقسيم الانخراط الأمريكي إلى خمس مراحل، بما في ذلك التدخل بحد ذاته، وفترة ما بعد الصراع مباشرة، وعواقب الوفاة المأساوية للسفير كريس ستيفنز في بنغازي. ووفقاً لمعلومات موثّقة جيداً، أحدثت وفاة السفير ستيفنز عاصفة سياسية طويلة الأمد بدأت في عام الانتخابات الأمريكية 2012 وتجددت باستهداف هيلاري كلينتون في عام 2016 باعتبارها مسؤولة، نظراً لمنصبها كوزيرة خارجية في ذلك الوقت، على الرغم من تبرئتها في تقرير لجنة من قبل الكونغرس الأمريكي بقيادة الجمهوريين.

* كتب/ بين فيشمان،

وقد أدى ذلك إلى تقويض استثمار رأس المال السياسي أو المخاطرة في استقرار ليبيا. وبما أن الرئيس أوباما كان يرى أن فترة ما بعد التدخل هي مشكلة أوروبية، استمرت الولايات المتحدة في تجنب المجازفة فيما يتعلق بالاستثمار في ليبيا، وهو ما تبين بوضوح مع انسحاب السفارة الأمريكية خلال المراحل الأولى من الحرب الأهلية ما بين العامين 2014 و2015 وتحولها إلى “مكتب خارجي لليبيا” مقره تونس بعد أن أقيم لفترة وجيزة في مالطا. وبعد مرور عشر سنوات، تعمل إدارة بايدن مع الكونغرس الأمريكي للعودة وإرساء وجود مبدئي في العاصمة طرابلس، في حين أعادت معظم البلدان سفاراتها خلال السنوات القليلة الماضية.

وعند التفكير في مجرى السياسة الأمريكية على مرّ العقد المنصرم، وتحديداً أثناء إدارتَي ترامب وبايدن، تبرز ثلاثة اتجاهات ثابتة (وإن بدرجات مختلفة): أولاً، الدعم غير الكافي للعملية السياسية للأمم المتحدة القاضية بإعادة الشرعية إلى القيادة السياسية في ليبيا؛ ثانياً، المناشدات المتكررة لأمير الحرب في شرق البلاد وقائد “الجيش الوطني الليبي”، خليفة حفتر، للمشاركة في العملية السياسية؛ ثالثاً والأهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة، قلة اهتمام واضحة بالوجود الروسي المتزايد في ليبيا.

لن تكون ليبياً يوماً على رأس أجندة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولا على أجندات السياسة الخارجية الأخرى لواشنطن. ولكن إذا أولت الولايات المتحدة مستوى أكبر من الاهتمام والمشاركة، فستتمكن من شق طريق واسعة نحو تحقيق الاستقرار في بلد قادر على نفع جيرانه والمنطقة، من خلال الإدارة السليمة لثروته النفطية، واستثمار المليارات من الدولارات التي لا تزال مجمدة من عهد القذافي، ومنع التوسع الروسي في المنطقة ككل.

مشاركة سياسية غير كافية

حاول “اتفاق الصخيرات” أو “الاتفاق السياسي الليبي” إنهاء الحرب الأهلية التي اندلعت في الفترة ما بين العامين 2014 و2015 بين “عملية الكرامة” بقيادة حفتر وتحالف “فجر ليبيا” الذي يضم أساساً ميليشيات موزعة حول مصراتة وطرابلس. وبدلاً من ذلك، يبقى الانقسام العام في ليبيا بشكل رئيسي بين حفتر (الذي سيتم الحديث عنه أدناه) والناجي السياسي عقيلة صالح في شرق البلاد، والحكومات الزائفة والجماعات المسلحة في الغرب المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.

وقد أوجد “الاتفاق السياسي الليبي” مجلسين هما “المجلس التشريعي” أو مجلس النواب (المسؤول عن سن القوانين) ومقره طبرق و”المجلس الأعلى للدولة” ومقره طرابلس. ويضطلع “المجلس الأعلى للدولة” بدور استشاري إلا أن دوره القانوني لم يتم تحديده بالكامل. وتجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة عينت فايز السراج رئيساً للوزراء. وقد أدى رفض حفتر، من بين عوامل أخرى، قبول خضوع الجيش لسيطرة مدنية كما هو محدد في “الاتفاق السياسي الليبي”، إلى إبطال أحد أهم عناصره بصورة فعلية.

وعلى مدى السنوات التالية حاول المجتمع الدولي التوصل إلى إجماع من خلال عقد قمم في أوروبا، بما في ذلك في فرنسا في العامين 2017 و2018، ثم في إيطاليا في وقت لاحق من عام 2018. وأسهمت هذه المؤتمرات في تحويل حفتر من جنرال منشق إلى رجل دولة دولي على قدم المساواة مع السراج.

وعلى الرغم من حضور رؤساء دول أجنبية في هذه القمم، إلا أنها لم تسفر عن توافق لتنفيذ “الاتفاق السياسي الليبي” أو اعتماد عملية للانتخابات.

وبعد اندلاع حرب أهلية أخرى في عام 2019، استضافت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مؤتمراً دولياً بشأن ليبيا في برلين في يناير 2020 لوقف العنف. وعندما حدث وقف إطلاق النار أخيراً في أكتوبر 2020، أنشأت الأمم المتحدة “ملتقى الحوار السياسي الليبي” الذي اختار أعضاؤه رئيساً ورئيس وزراء، وهما محمد المنفي وعبد الحميد الدبيبة. وكان من المفترض أن تُنظّم حكومة الدبيبة الانتخابات في نهاية عام 2021 إلا أنها تأخرت لأسباب عديدة في حين يبقى الدبيبة رئيساً لـ “حكومة الوحدة الوطنية” بعد ثلاث سنوات من تعيينه الأول وما زال حفتر يسيطر على شرق البلاد.

وفي هذا السياق، وقفت الولايات المتحدة على الحياد معظم الوقت في محاولة لإتاحة حصول بعض التقدم بين السراج وحفتر من خلال اجتماعات مباشرة وحضور الاجتماعات الأوروبية على مستوى وزاري أو ما دون ذلك. ولكن ما تستطيع الولايات المتحدة فعله دائماً هو الضغط على الجهات الفاعلة الأجنبية، أو “المُفسدين”، الذين يدعمون الأطراف المتنافسة على الساحة السياسية الليبية، للوصول إلى توافق. وفي أوقات مختلفة، كان حرياً بالولايات المتحدة أن تضغط على مصر والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وتركيا وقطر وإيطاليا للتأثير على حلفائها الليبيين لقبول التسوية السياسية. والمشكلة هي أن تنظيم جهد دبلوماسي منسق وفعال عادةً ما يأتي في آخر “جدول العمل” المخصص للمهام رفيعة المستوى، وعادة ما تكون هناك قضايا ملحة في العلاقات الثنائية مع الدول المذكورة أعلاه أكثر من موضوع ليبيا. ولذلك، فبدون الدعم اللازم من البيت الأبيض أو وزير الخارجية الأمريكي، يمكن تجاهل المبعوث الخاص بسهولة.

وكان الأمر الإيجابي الوحيد الذي فعلته الولايات المتحدة هو استحداث مجموعة جديدة من العقوبات في عام 2016 تستهدف الأفراد الذين “يهددون السلام والأمن والاستقرار في ليبيا، بما في ذلك من خلال توريد الأسلحة أو المواد ذات الصلة”، وأولهم عقيلة صالح وكذلك قائد الميليشيا الغربية صلاح بادي. ولكن نظراً لأن صلاح لا يملك حسابات مصرفية أمريكية لتجميدها ولا طموحات للسفر إلى واشنطن، بقيت العقوبات المفروضة عليه رمزية وسمح له الشركاء الأوروبيون بالسفر والمشاركة في المؤتمرات. ولكن لو وقعت العقوبات على حفتر لكان الأمر مختلفاً.

مبالغة في تقدير نفوذ حفتر وقيمته

لم يظهر حفتر أثناء ثورة 2011 بل فيما بعد. وقد أبرز نفسه كمناهض للإسلاميين وظهر كقوة بديلة للنفوذ المتزايد للميليشيات الإسلامية التي كانت تقتل أفراداً، سواء من المؤسسة الأمنية الوحشية أو من الجهاز القضائي غير الأيديولوجي. وفي نهاية المطاف، تمكن من هزيمة المتطرفين في بنغازي وحول أنظاره إلى درنة التي تشهد وجوداً قوياً لقوات “أنصار الشريعة”. وبدعم من دول معادية لـ”الإخوان المسلمين” مثل مصر والإمارات العربية المتحدة، وإلى حد ما فرنسا، ازدادت سيطرته على ما يسمى بـ”الجيش الوطني الليبي”. غير أن إدارة أوباما التي ميزت بين الإسلاميين السياسيين مثل راشد الغنوشي التونسي والإسلام المتشدد، اتخذت موقفاً تجاه التصريحات التي وصفت كل الإسلاميين بالإرهابيين. ووصلت الحرب إلى طريق مسدود، وصاغ الممثل الخاص للأمم المتحدة برناردينو ليون “الاتفاق السياسي الليبي”، مما دعا المجتمع الدولي إلى الضغط على حفتر لقبول حكومة مؤقتة ووضع الجيش تحت السيطرة المدنية، الأمر الذي منحه فعلياً حق النقض على أي تسوية سياسية.

لقد ازداد حفتر عناداً وتجرأ على مهاجمة طرابلس في اليوم الذي زار فيه الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش المدينة للمساعدة في إطلاق الحوار الوطني برعاية ممثله الخاص غسان سلامة. وإذا كان هناك أي سبب يدعو لمعاقبة شخص ما لتهديده “السلام والاستقرار” في ليبيا، فإن ذلك هو السبب بصورة مؤكدة. لكن الولايات المتحدة اختارت عدم القيام بذلك، واستفاد حفتر من دعم المرتزقة السوريين والأفارقة، والأهم من ذلك، المرتزقة الروس من مجموعة “فاغنر” الذين كادوا ينجحون في الاستيلاء على طرابلس. ولا يزال النقاش دائراً حول ما قاله مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون لحفتر خلال الفترة التي سبقت الحرب، وما إذا كان قد أعطى حفتر “الضوء الأخضر أو ​​الأصفر” للهجوم إذا كان بإمكانه الاستيلاء على طرابلس بسرعة. وبغض النظر عن ذلك، استمرت الحرب وتجاهلت الولايات المتحدة العواقب.

وبعد فترة وجيزة من وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، أنشأت الأمم المتحدة “ملتقى الحوار السياسي الليبي” حيث ناقش خمسة وسبعون عضواً من المجتمع الليبي قضايا سياسية مستقبلية، واختاروا مؤقتاً رئيس وزراء لتولي الحكم حتى موعد الانتخابات الوطنية في نهاية عام 2021. وقد حقق عبد الحميد الدبيبة فوزاً مفاجئاً بل مثيراً للجدل على عقيلة صالح. وأدى حفتر مجدداً دور المُفسد من خلال اتخاذه مواقف مختلفة بشأن شرعية ترشح عناصر من الجيش للرئاسة، وهذه إحدى القضايا الرئيسية التي تعيق الانتخابات.

ومع تأخير الانتخابات إلى موعد غير محدد، حاولت الولايات المتحدة (مع حلفائها) التواصل مع حفتر في مسعى لحمله على التعاون بشأن إمكانية إجراء انتخابات وطنية وطرد القوات الروسية من المنطقة الشرقية. ومع تخفيف القيود على تحرك المسؤولين الأمريكيين في ليبيا، التقى ممثلو الولايات المتحدة مع حفتر ست مرات على الأقل خلال إدارة بايدن. وتم تأجيل إحدى هذه الزيارات بعد أن أسقط حفتر (أو روسيا) طائرة استطلاع مسيرة استعداداً لزيارة المبعوث الخاص للولايات المتحدة. ولم يتخذ حفتر أي خطوات نحو الموافقة على الانتخابات وازداد تقرّباً من الروس.

الروس قادمون

تشير تقديرات عامة إلى أن مرتزقة “مجموعة فاغنر” متواجدون في ليبيا منذ عام 2018 على الأقل، ويتزايد وجودهم بصورة أكثر منذ ذلك الحين. وفي هذا الإطار، وثقت “القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا” أن طائرات مقاتلة وناقلات بضائع روسية كانت قد انطلقت في يوليو 2020 من سوريا إلى “قاعدة الجفرة الجوية” في وسط ليبيا وكذلك إلى “قاعدة الخادم الجوية” القريبة من بنغازي. كما يستفيد حفتر من “فاغنر” لتأمين السيطرة على منشآت نفطية رئيسية. وقد تطورت هذه العلاقة نحو نهاية الحرب الأهلية التي دامت بين العامين 2019 و2020 عندما كاد القناصة الروس، والطائرات المسيرة الصينية المنشأ ومعها وحدات الدفاع الجوي المتنقلة، أن يغيّروا مجرى الحرب، إلى أن تدخلت تركيا باستخدام طائرات مسيرة ومشغلين متفوقين. وفي الوقت نفسه، قدّرت لجنة خبراء الأمم المتحدة عدد عناصر “فاغنر” الموجودين في ليبيا بحلول صيف عام 2020 بحوالي 1200 إلى 2000 عنصر.

وفي البداية، أنكرت روسيا وجودها في ليبيا كما أنكرت انتشار قوات “فاغنر” في سوريا وأوروبا الشرقية. وبعد وفاة يفغيني بريغوجين قبل عام تقريباً، استقطب “فيلق أفريقيا” الناشئ، التابع لوزارة الدفاع الروسية، حفتر الذي تلقى زيارات شهرية تقريباً من نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف. وفي الواقع، بعد يوم واحد فقط من استضافة قائد “القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا”، توجه حفتر إلى موسكو لعقد اجتماع مع فلاديمير بوتين.

إن الأهداف الروسية في ليبيا واضحة: فروسيا تسعى إلى الوصول إلى ميناء في ليبيا وقواعد جوية لمراقبة حلف شمال الأطلسي (“الناتو”) في البحر الأبيض المتوسط ومعبر يأخذها إلى حلفائها الناشئين في منطقة الساحل، علماً أنها في طريقها لتحقيق جميع هذه الطموحات ما لم تبذل الولايات المتحدة وشركاؤها في حلف شمال الأطلسي جهوداً متضافرة للتصدي لها.

ولم يحدث ذلك حتى الآن حيث تصب الولايات المتحدة تركيزها على قضايا أكثر إلحاحاً، ولكنّ السماح لروسيا بترسيخ وجودها في ليبيا وأفريقيا سوف يلحق ضرراً كبيراً بالمصالح الأمريكية. وفي هذا الإطار، يشكل الاستثمار بشكل أكبر في الساحة المحلية الليبية المتجمدة جزءاً من الاستراتيجية لمواجهة روسيا في ليبيا، ولن يضع حفتر عند حدّه سوى حكومة أكثر شرعية تفرض مبادئها القومية التي أظهرها الليبيون خلال المرحلة الأولى من الانتقال ما بعد عام 2011.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* زميل في معهد واشنطن حيث يركز على شمال أفريقيا. وشغل فيشمان سابقاً كمدير لشؤون شمال أفريقيا في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي. تم نشر هذا المقال على موقع “المجلس الأطلسي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى