العربي الجديد-
دفع سوء الأحوال المعيشية، والتردي الاقتصادي الذي انحدرت إليه البلاد بسبب توقف حركة التنمية، واعتمادها على النفط مصدرا وحيدا للدخل، آلاف الشباب الليبيين إلى البحث عن فرص للعمل في القطاعات الخاصة وتعلم المهن والحرف، بعد انتهاء عصر التوظيف الحكومي في ظل تدهور طاول مختلف القطاعات بسبب تواصل الصراعات العسكرية والاضطرابات السياسية والأمنية في البلاد.
شهادات الكثير من الشباب تكشف عن تغييرات كبيرة في سوق العمل وتوجهاته بعد أو أوصدت أبواب العمل في القطاع الحكومي، فأحدهم، ويدعى إبراهيم معنا، عبر عن استيائه لاضطراره إلى البحث عن عمل خاص قائلا: “لم أكن أتوقع أن يكون هذا مستقبلي المهني”.
ويعمل الشاب الليبي ذو التسعة عشر عاما في مهنة البناء بضواحي طرابلس الجنوبية، موضحا أنه ترك وأهله منزلهم بمنطقة خلة الفرجان في طرابلس بسبب الحرب التي قادتها مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، حيث كانت المنطقة قريبة من خطوط الاشتباك، وأحيانا كانت نفسها مسرحا للقتال، ما جعله وأسرته في عداد النازحين. وحسب إحصائيات حكومية، فإن عدد نازحي حرب طرابلس بلغ نحو 300 ألف شخص.
وعدا عن خسارة إبراهيم معنا وأسرته بيتهم، تطلبت الظروف تكاليف أخرى كان إيجار منزل أشدها، ففي تلك الفترة ارتفعت أسعار الإيجارات بسبب الطلب المتزايد عليها من النازحين.
وفي هذا السياق، يقول: “في الأسابيع الأولى من النزوح، كنا ندفع 900 دينار نظير شقة من غرفتين، ينقصها الأثاث، وبالكاد تؤوينا، والحل في المقابل هو المبيت في أحد الملاجئ… كان لزاما على مساعدة والدي في تدبير المال”، لكن الإيجار الشهري بدأ في التضاعف مع مرور الوقت”.
لم يترك الشاب الليبي مدرسته الثانوية التي كان يدرس في آخر سنة فيها، بل هي من تركته وزملاءه بعد أن طاولتها قذائف الحرب، كما يقول، ومع هذا، يعتبر نفسه من المحظوظين، فقد “خرج وأهله سالمين جسديا من الحرب بخلاف كثر غيرهم، ثم إنه لم يتعب كثيرا حتى تحصل على أول فرصة عمل في محطة غسيل سيارات”.
ويتابع: “عملي الأول في غسل السيارات كان مرهقا، لكنني تقاضيت نظيره راتبي الشهري الأول، 500 دينار، وفرحتي كانت كبيرة في البداية، لكنني سرعان ما تذكرت أنني لن أشتري به شيئا، لقد أبقيت أجرة المواصلات معي، وسلمت الباقي لوالدي”.
ما زال يتذكر تفاصيل وجه والده عند استلام المال على قلته “كانت خليطا من الفرح والحزن”، حسب تعبيره، “لعله فرح الأب بابنه الذي كبر وصار يحمل معه الأوزار، ممزوجة بحزن تركه الدراسة”.
بتدرجه في عدة مهن وحرف، بات اليوم يتقن مهنة البناء، وقرر عدم تركها والاستغناء بها عن الوظائف الحكومية، بل يرغب الكثير من أصدقائه الشباب في الالتحاق به، فـ”الفكرة راقت لهم، والوصول إلى المال الكافي بهذه المهن أفضل من رواتب الوظائف الحكومية التي لم تعد متوفرة”.
وبات أكبر طموح لدى إبراهيم بعد تعلمه مهنة البناء هو إعادة ترميم بيت أسرته، لكن المال اللازم لذلك لا يزال غير كاف.
خياطة الستائر والطهو
وغير بعيد عن منطقة خلة الفرجان، وبالقرب من سوق أبو سليم، امتهن سامي عبد اللطيف خياطة وتركيب الستائر، وهي مهنة برع فيها الكثير من الشباب، ربما لأنها الأقل عناء ومكابدة وتدر دخلا أكثر من المهن الشاقة الأخرى، لكن طريق تعلم عبد اللطيف هذه المهنة كان مختلفا، إذ يقول لــ”العربي الجديد”: “الأمر جاء بالصدفة، عندما كنت أتصفح بعض قنوات موقع يوتيوب، ووجدت إحداها تتحدث عن كيفية خياطة وتركيب الستائر، وحتى طرح تصاميم جديدة”.
ويضيف: “أعجبتني الفكرة، ولم أتجه للعمل حتى تشبعت من التعلم النظري، واستفدت أيضا من آلة خياطة منزلية تمتلكها أمي التي علمتني بدورها بعض المبادئ العملية، وبعدها بدأت في البحث عن مشغل أكمل فيه ما بدأت مع أمي”، ولم يطل بحث سامي كثيرا، فسوق العمل الحر نشط إلى حد معقول، ولم تمض مدة حتى عمل في سوق أبو سليم المختص بالمفروشات.
وما أن أتقن الصنعة (الحرفة) الجديدة حتى شرع في العمل من بيته، بعد أن اشترى آلة خياطة وأنشأ صفحة خاصة به في مواقع التواصل يصور ويعرض من خلالها أعماله، وصارت تأتيه طلبيات العمل، سواء من محلات الأقمشة في السوق، أو مباشرة من الزبائن.
ويؤكد سامي أنه لن يفكر في الذهاب إلى الجهات الحكومية بحثا عن الوظيفة “فما تؤمنه لي مهنتي لن توفره الوظيفة التي لا أتصور أنه يمكنني الحصول على تعيين رسمي فيها قبل سنوات، وبعد إهدار كرامتي أمام المكاتب الحكومية”.
وفي منطقة غوط الشعال، وهي إحدى المناطق التجارية النشطة بطرابلس، سلكت مروة ساسي نهجا قريبا، وتعلمت حرفة الطبخ (الطهو) على يد والدتها، قبل أن تطور مهاراتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لصقل مهاراتها ونيل بعض الشهرة في صناعة الحلويات.
وكسبت مروة ثقة زبائنها، وأصبحت صفحتها على فيسبوك نافذة لعملها الذي تفتخر بأنها فتحت به أبواب عمل لغيرها، فأخوها أصبح يعمل معها بتوصيل الطلبيات إلى زبائنها.
وتقول الفتاة الثلاثينية، لـ”العربي الجديد”: “لقد تغيرت حياتي كليا، وشغلت وقتي بشيء مفيد لي ولغيري، فقد صرت أستعين باثنين من جاراتي بعد أن علمتهن المهنة، ونطمح الآن لتطوير العمل بنقله إلى محل بعنوان ثابت”.
عجز الاقتصاد الحكومي
هذه شهادات كافية، بحسب أستاذ العلوم الاقتصادية رأي عبد السلام زيدان، للتأكيد على عجز الاقتصاد الحكومي عن استيعاب الطاقات الجديدة في سوق العمل، بل انحسار الأخير في عدد من المجالات الجامدة وظيفياً، وقال: “أعتقد أن مثل هؤلاء الشباب هم من يدعمون الاقتصاد الوطني بشكل حقيقي ويجب تشجيعهم من خلال دعمهم بقروض خاصة بالمشاريع الصغرى”.
ويقول زيدان لـ”العربي الجديد”: “هؤلاء الشباب يوفرون على الدولة رواتب ثابتة يتقاضاها أكثر من مليون ونصف مليون موظف حكومي، جزء كبير منهم لا يقدم في الواقع خدمة تذكر”، مستدركا “منذ أكثر من نصف قرن، أصبحت ليبيا دولة ريعية تعتمد فقط على استخراج وتصدير البترول الذي يغطي نحو 98% من ميزانية الدولة، فيما يأتي الجزء القليل الباقي من بعض الضرائب والجمارك”.
ويتابع حديثه بالقول: “حتى سبعينيات القرن الماضي، كان الليبيون يتقنون العديد من المهن والصنائع، ومع الوقت، توظفت غالبيتهم في مؤسسات الدولة، حتى أتخمت بالموظفين الذين لا يزيد وجودهم عن تكاليف ثابتة باهظة تثقل كاهل الميزانية العامة بأرقام فلكية”.
ويكمل: “في الأشهر الخمسة الأولى فقط من هذا العام، أنفقت الدولة 16.4 مليار دينار ليبي على الرواتب، يقابلها 118 مليونا فقط على التنمية، وفقا لبيانات مصرف ليبيا المركزي، وهذه حسابات كارثية لن تضبط إلا بتنشيط القطاع الخاص”.
ويعتقد زيدان أن الظروف الاقتصادية الحالية في ليبيا “على سوئها” قد تغير ما وصفه بـ”الطبيعة الاقتصادية الاتكالية على الدولة”، تماما كما حصل مع الشباب الذين اتجهوا للعمل الخاص.
وأضاف: “هناك شباب اتجهوا لحرف متعددة، كأعمال البناء والرخام والجبس والطلاء، ومد خطوط الكهرباء والمياه في المنازل، وميكانيكا وكهرباء وسمكرة السيارات، وتصليح الإطارات، وورش الحدادة والنجارة وصيانة الإلكترونيات، وغيرها من الحرف، هذا بخلاف العاملين بالشركات الخاصة من إداريين ومهندسين، وكذلك الأطقم الطبية العاملة في المصحات والمعامل غير الحكومية”.
ولكن ما ينقص اكتمال دائرة الانتفاع العامة، وفق وصفه، هو “تطوير وتفعيل نظامي الضريبة والجباية، مع اتباع سياسة حكيمة في تصاريح دخول العمالة الوافدة، بحيث تترك فرصة عمل للشباب الليبي الطامح للعمل الخاص”.