
الناس-
في رحلة تمثل أروع صور التضحية، يتحدث فني التخدير والعناية الفائقة “عبدالرحمن عاصم حميد” أحد النشطاء المشاركين في سفينة عمر المختار ضمن سفينة “عمر المختار” التي شاركت في أسطول الصمود لفك الحصار عن غزة، عن تفاصيل تلك التجربة المليئة بالتحديات، والتي تمثل نموذجاً للتضامن مع قضية فلسطين.
في حديثه للناس، يروي محدثنا ابن مدينة مصراتة، ذو الـ 25 عاماً كيف تحولت السفينة من وسيلة لنقل المساعدات إلى سفينة طبية مساندة لأسطول الصمود العالمي، وكيف تعامل مع الظروف الصعبة التي مر بها أثناء الاعتقال على يد الاحتلال الإسرائيلي، ويعكس صبره، صلابته، وأمله الكبير في التغيير.
وتحدث أيضاً عن تفاصيل الحياة في السجون الإسرائيلية، عن مسبحته الخاصة التي نزعها منه السجّان فهيأت له ظروف الاحتجاز صنع مسبحة أخرى، فإلى نص الحوار:
حاوره: عبدالعزيز عيسى-

الناس: بدايةً، كيف كانت الاستعدادات قبل الإبحار خاصة وأنك التحقت بالسفينة عندما تقرر تحويلها إلى سفينة للخدمات الطبية، وكانت تحمل على متنها غرفة عمليات وعيادة باسم “حسام أبو صفية”، وكنت الطبيب الوحيد على متنها؟
بسم الله الرحمن الرحيم، أولاً أشكر الله سبحانه وتعالى الذي منحنا الفرصة للمشاركة في هذا الأسطول، وأشكر جميع من ساهم معنا ووقف إلى جانبنا سواء في جمع التبرعات أو متابعة أخبارنا. لا يمكنني نسيان أهلنا في مدينة مصراتة الذين كانوا من أول من ساندنا، وكذلك اتحاد طلبة ليبيا الذين قاموا بتنظيم مسيرات دعم مهمة جداً.
أشكر أيضًا الملحق الصحي في السفارة الليبية في الأردن وسفارة ليبيا في تركيا، ولا أنسى شكر رئيس حكومة الوحدة الوطنية والجهاز الوطني للقوات المساندة، واتحاد طلبة كلية العلوم الصحية الذين كانوا في قلب المتابعة، وأيضًا الجيران والأهل وكل من وقف معنا.
أما بالنسبة للاستعدادات: لم أكن مطلعًا على التفاصيل بشكل كامل لأنني التحقت بالسفينة قبل يومين فقط من إبحارها. التحقت مكان الطبيب المرافق الذي حالت ظروفه دون الالتحاق بالسفينة التي كانت في البداية مخصصة لنقل المساعدات والأدوية، وكان الهدف الرئيسي من مشاركتها في أسطول كسر الحصار هو فك الحصار عن غزة.
لكن في اللحظات الأخيرة، خطرت للدكتور “محمد الحداد” فكرة أن يتم تحويل السفينة إلى وحدة طبية مساندة لبقية سفن الأسطول لتقديم المساعدات الطبية لأهالي غزة عند وصولنا، ولذلك بدأنا بالتحضير بشكل سريع. وفي غضون 48 ساعة فقط، قمنا بترتيب غرفة عمليات صغيرة على متن السفينة كانت مجهزة بشكل كامل، وكان التجهيز كبيرًا جدًا.
قبل الإبحار إلى غزة، تم إطلاعنا على البروتوكولات الدولية للتعامل في حال تم القبض علينا، وكذلك الخطط البديلة في حال إرجاعنا أو قطع الطريق علينا، وكان هناك ترتيبات ممتازة لضمان سلامتنا.
الناس: ما الذي كان يرمز إليه هذا الأسطول بالنسبة لكم كنشطاء دوليين؟
أسطول كسر الحصار كان يمثل بالنسبة لنا أملًا كبيرًا وفرصة للمساهمة في دعم قضيتنا الفلسطينية. كان هدفنا أن نكسر الحصار المفروض على غزة، وأن نكون جزءًا من هذا التحرك الإنساني العظيم. كنت شخصيًا أشعر بأنني أشارك في مهمة تاريخية، وأننا نكسر الجدار الذي يحاصر غزة بمساعدة العالم كله، وأن ذلك سيشرفنا أمام الله. بالطبع كان لدينا أمل عميق في الوصول إلى غزة وكسر الحصار، ولذلك كان الإصرار هو المحرك لنا. كانت الخيبة التي شعرنا بها عند القبض علينا شديدة، رغم أن هذا كان متوقعًا، ولكن الحمد لله، عندما خرجنا من السجن وسمعنا بنبأ وقف إطلاق النار، أسعدنا هوّن علينا حسرة عدم الوصول لغزة.
الناس: كيف تعامل الجنود الإسرائيليون معكم أثناء السيطرة على سفن الأسطول الواحدة تلو الأخرى؟
التعامل في البداية كان عاديًا جدًا ولم يكن بالسوء الذي توقعناه، ربما لأننا لم نرد عليهم بأي استفزاز أو تصرف قد يدفعهم للقيام بأي ردة فعل عنيفة. قد يكون السبب في ذلك أن الوضع كان مراقبًا دوليًا بشكل كثيف، ولكن المعاملة السيئة بدأت عند وصولنا إلى ميناء أسدود، حيث بدأنا نلاحظ فرقًا في التعامل بين الجنود الذين احتجزونا وبين الأشخاص الذين تعاملنا معهم هناك.
عند لحظة الهجوم علينا، بالطبع كانت هناك رهبة لأننا نتعامل مع قوات مسلحة على درجة عالية من العنف، وأشخاص لا عهد لهم ولا ميثاق، وهم ارتكبوا العديد من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، وبالأخص في السنوات الأخيرة. كان هناك توتر واضح في صفوفهم، ورغم ذلك، كنا ملتزمين بالبروتوكولات التي تم تدريبنا عليها.
الناس: أصيبت إحدى الناشطات خلال الرحلة، هل لك أن تروي لنا تفاصيل تلك الحادثة؟
نعم، الناشطة “ريدلي إيفون” أصيبت في رأسها نتيجة سقوطها على الأرض بسبب حركة السفينة التي كانت تتأرجح بشكل مستمر. كانت إصابتها بسيطة ولحسن الحظ، كان وعيها جيدًا وكانت في حالة مستقرة. كنت أتابع حالتها الصحية بشكل دوري طوال الرحلة، وقدمت لها الرعاية اللازمة بين الفترة والأخرى.
الناس: حدّثنا عن اللحظة التي شعرت فيها بالخوف وتلك التي شعرت فيها بالثقة؟
كانت مشاعرنا في البداية مختلطة بين القلق والخوف مع شعور بالاعتزاز. فور صعود الجنود الإسرائيليين إلى السفينة، كان هناك شعور طبيعي بالرهبة، خاصة وأننا كنا نواجه أشخاصًا مسلحين، والتهديدات كانت واضحة. لكن بعد احتجازنا، وبعد مرور الوقت، بدأنا نشعر بشيء من التماسك والثقة، خصوصًا عندما بدأنا نتحدث مع بعضنا البعض، حيث كان هناك من يضحك ويناقش الأمور بشكل عادي، بل كان البعض ينام لساعات، وكان البعض الآخر يتمرد ضد ممارسات الاحتلال. كان الوضع صعبًا، لكن جميعنا كنا متوحدين حول قضية واحدة. كنا نأكل سوياً، ونشرب سوياً، وحتى في أصعب اللحظات كنا نحترم بعضنا البعض، سواء كنا مسلمين أو غير مسلمين. هذه الوحدة في الصفوف كانت مصدر قوتنا وقلق الاحتلال في ذات الوقت، خاصة عندما كنا نرفع التكبير في وجوههم.
الناس: كيف كانت علاقتك بزملائك على ظهر السفينة، وما طبيعة الأحاديث التي كانت تدور بينكم؟ هل هناك موقف أو حادثة ما لا تزال عالقة في ذهنك؟
علاقتنا كانت علاقة أخوة حقيقية. هناك من كان في مقام والدي، وهناك من كان في مقام أخي الأكبر، وكانت هناك علاقات خاصة جدًا بيننا، حيث كان البعض منهم في البداية أشخاصًا لا أعرفهم، لكننا كنا نكمل بعضنا البعض في هذا الطريق.
والمواقف كانت كثيرة، بينها موقف (طنجرة المكرونة) التي كنا نحضرها وكانت جاهزة للأكل، بينما كانت سفن الاحتلال تبحر بالقرب منا، فتحركنا لأعلى السفينة ورفعنا أيدينا لأعلى “وفق البروتوكول المتفق عليه”، وما إن بعدت السفن، حتى طلب مني الأستاذ “كمال الشامي” أن آخذ الطنجرة لأعلى السفينة، كنا نأكل المكرونة ونترقب لحظة القبض علينا، كان موقفا جميلا جداً فيه شعور بالاعتزاز.
الناس: تحدّث بعض النشطاء عن ظروف قاسية في السجون، كيف كانت أوضاعكم خلال فترة الاحتجاز، خاصة وأن الإفراج عنك جاء ضمن الدفعة الثانية التي جرى ترحيلها إلى الأردن؟
بالفعل كانت ظروف السجون قاسية جدًا. في المرة الأولى، كنت مع 13 شخصًا في غرفة ضيقة تحتوي على ثمانية أسِّرة، وكان هناك من ينام على الأرض، وآخرون يضطرون للنوم في عتبة الحمام. أكثر ما كنا نعاني منه كان نقص المياه، حيث كانوا يطلبون منا أن نشرب من مياه الحمام.
بالنسبة للطعام، كان يُقدّم لنا في صحون بلاستيكية، وكنّا نحتفظ بها بعد تناول الطعام. في الأيام التالية، كانوا يقدمون الطعام في حوافظ كبيرة، كنوع من التعذيب النفسي. الطعام كان يتألف غالبًا من خبز التوست، جبنة، فلفل حلو، وطماطم وخيار. كانت الظروف قاسية للغاية، أما المعاملة داخل السجن فكانت مليئة بالإساءات اللفظية، وكانوا يمنعوننا من النوم ليلاً كنوع من الضغط النفسي علينا.

الناس: ما أكثر موقف أثّر فيك خلال الاعتقال؟
من أكثر المواقف التي أثرت في خلال الاعتقال كان عندما أخذوا مني مسبحتي الخاصة في بداية وصولنا إلى السجن.
فبعد ثلاثة أيام من الاحتجاز، حاولت أن أصنع مسبحة من بقايا الزيتون وخيط نزعته من بطانيتي، ولكن فشلت المحاولة، بعدها دخلت الحمام، وخرجت، طلبوني للتحقيق، ورجعت منه للزنزانة وعدت للحمام مرة أخرى، في هذه المرة عثرت على “حبوب خرز” في كيس داخل الحمام، فرحت بها وسألت مرافقي في الغرفة إن كانت لأحدهم؟ فأخبروني أنها ليست لهم، وكنت العربي الوحيد بينهم، كان معي مكسيكسي وبرازيلي وفرنسي وتركي، وبدأت في صنع مسبحة صغيرة من 33 حبة، استغربت من الموقف، والسبحة لا تزال معي حتى الآن، وهي من أكثر الأشياء التي فرحت بها وصبرتني في السجن.
				


