ثقافة

المربوعة الصغيرة ..

* كتب/ محمد الجمل

عندما يكون عند أبي ضيف في المربوعة الصغيرة.. تطلب أمي أن أوصل له سفرة القهوة العربية وحبات غريبة أو دوائر كعك بحبات الكمون الحلو أو مقروض..

أطلب منها أن توصلني لباب المربوعة فالقهوة تتساقط إلى الصحن تحت الفنجان، وهو ما لا ينبغي أن يكون، حفاظا على ملابس الضيف المرتدي عادة جردا أبيض وسورية عربية بيضاء..

تطرق لي أمي الباب.. تفتحه.. وتدفعه بحيث تكون على جانب الباب؛ وأدخل أنا بيدين مرتعشتين، ونظر مركز للفناجين واهتزاز القهوة داخلها بشكل مجنون، وأنا اطلب من رب العالمين أن تتحول القهوة إلى جيلي أحمر حتى أوصلها بأمان إلى قبضة أبي الممتدة لالتقاطها.. تثبت السفرة فورا.. أتركها وأعود مسرعا ..

المربوعة الصغيرة نسميها كذلك لوجود أخرى كبيرة بها صالون إفرنحي وعربي، وتلفزيون أبيض وأسود، في صندوق خشبي يستقبل بها الضيوف العاديون، أما أولئك المقربون المضمونون في زمن امتلاك الكتاب تهمة،  فتستقبلهم الصغيرة حجما الكبيرة بآلاف الكتب المخزنة بعناية، بأرفف معدنية وخشبية تلف حيطانها الأربعة، في حين يظل بعضها في أكياس في انتظار رصها..

الكتب تخزن في الأرفف صفين.. صف داخلي غير منظور.. وصف خارجي يظهر العناوين المذهبة فيزيد المكان جمالا ..
أدخل المربوعة عند وجود الضيوف خمس مرات عادة، أولها للقهوة ثم ثلاثة أدوار شاي أحمر، آخرها منعنعة معها كاكاوية أحيانا، ثم دلاع أو قلعاوي إذا كان موسمه.. أسمع بعض النقاشات أو بعض القطع المقروءة ليتحاور عليها أو جزء من مشكلة أو قصة أو موقف طريف بالسوق أو العمل.. تصبح تلك الهمهمات واضحة عند فتح باب المربوعة وينتشر الصوت في المنزل، كما أن هرجتنا تصبح واضحة للضيوف ولا تفيد حركات أمي للصمت ..

في مرة كان الشيخ علي عبدالحميد ينتقد الوقوف أمام العلم بصمت وخشوع، وأن تلك الوقفة لا تجوز إلا لله، كما أنه يترك الطابور الصباحي قبل لحظات من تحية العلم.. وكان أبي يقول له رد بالك على روحك..

الشيخ على كان من أكثر زوار المربوعة ذلك الوقت، وأكثر الضيوف حبا على قلبي.. الشيخ سالم القندوز غفر الله له قرأت له سورة “إقرأ” بعد أن طلب مني أن أقرأ “سورة العلق” ولم أعرفها، فضحك وقال سورة “إقرأ باسم ربك”.. آآه.. قلت بتعجب وأنا لم تتجاوز السابعة.. وانطلقت الحروف بسرعة ..
تردد على المربوعة أيضا الشيخ محمد عيبلو متعه الله بالصحة والعافية، والشيخ مختار بن عثمان غفر الله له، والعديد من المشايخ وطلبة العلم من المتقدمين والمتأخرين ..

اليوم انتقلت المربوعة الصغيرة إلى المربوعة الكبيرة، وصارت المربوعة الخارجية لاستقبال الضيوف البرانية.. أضاف أبي “كنبات” للجلوس خصص إحداها له، ليقضي معظم أوقاته جالسا أو ممددا أو نائما ..
لازالت أمي تعد القهوة والشاي والدلاع ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى