الناس-
صدر مؤخرا عن دار تالة للطباعة والنشر رواية “ذاكرة ذات” لكاتبها د. طاهر بن طاهر.
الرواية قدم له الناقد “عبدالحكيم المالكي” وصمم لوحة الغلاف لها أ. عدنان معيتيق.
وجاء في المقدمة أن صور الرواية تنفتح في معناها وتحتاج لقارئ متأمل”.. مضيفا “أن هناك ماهو خفي فعلا، وقد لا يدرك بسهولة”..
المقدمة نشرها المالكي على صفحة “المختبر النقدي” التي يشرف في موقع الفيس بوك، وجاء فيها أيضا:
((يحقق الراوي في رواية (ذاكرة ذات) حضورا مميزا لشخصياته ولعوالمهم ومحيطهم عن طريق السرد المركز التأملي وشبكة التصوير المميزة؛ كل ذلك يقوده شخصية مركزية متأملة متوترة ومشحونة، شخصية تعيش المرض والألم والقلق، وتصرخ تحت وطأة ثنائية الطهر والعفة.
يحرك الراوي عن طريق المهدي السرد وتشتبك كل الشخصيات في علاقة ما معه، ونجد معه باستمرار الحاضر الغائب في هذه الرواية، تلك الزوجة ياسمين.
لا يتم الحديث مباشرة عن سبب أزمات المهدي وقلقه، ولكن القارئ النبيه يعرف ذلك من خلال الحكاية التي أحسن الراوي حبكها وهو ينقلنا من حدث لأخر، ضمن تأرجح لا يخلو من فن بين عالم الطهر والدنس من جهة، وبين عالم المعقول وغير المعقول من جهة أخرى.
يتحرك الراوي مدججا بالكلمات الوظيفية، أو الكلمات التي تحقق في انفتاحها ودلالاتها المحددة التي قد لا يعرفها إلا قلة مستوى أخرا للنص غير ظاهر، الأمر الذي يجعل من خطاب هذه الرواية عديد مستويات الفعل والمعنى؛ بحيث يجد فيه القارئ البسيط العادي غايته عبر الحدث السهل الميسر، ويناور عن قارئه الخبير ببناء دلالة محكم.
تميزت الرواية أيضا بذلك التنظيم الزمني المميز الذي يتضمن الانتقال السلس من زمن إلى زمن، كما سيتابع القارئ، حركة الزمن من الحاضر إلى الماضي (غالبا) بشخصية الرواية الرئيسية: المهدي؛ حيث انتقلنا إلى زمن الثمانينات زمن دراسته في الجامعة وزمن تعرّفه على زوجته ياسمين، كما تمت العودة للزمن ذاته لرسم مجموعة أخرى من الشخصيات المختلفة حوله، وهي شخصيات متباينة في طباعها وميولها وفي مستوى معارفها بل وجنسياتها، نجح الروائي وراويه في تحريكها بحيث تشكلت بانوراما عامة لمكونات ثقافية تناسب بشكل دقيق ذلك الزمن، هذه الملاحظة بخصوص توظيف زمن محدد مع مجموعتين من الشخصيات لا رابط بينها تستحق الملاحظة؛ فطفولة المهدي وصباه (أيضا) كانت مادة لسرد الراوي الذي وضعنا من جهة في عالم سردي عجائبي كان مركزه سلمى تلك المرأة المسحورة فاقدة الزوج، ومن جهة أخرى كان مادة لرسم علاقة المهدي ببركة المربية السمراء أو المرأة التي كانت أداته (كعادة الراوي في هذه الرواية) لاستكشاف مجتمعها المغلق على نفسه.
العودة الزمنية التي ترتبط غالبا بنقلة مكانية كانت أداة الراوي لوضعنا في لوحة تأملية في ثقافة حضارة ما من الحضارات، لوحة بلوحة كنا نتابع تصورات المهدي وأفكاره وشبقه وقلقه ألمه وجنونه.
المهدي الذي كان مطاردا بعديد الدعاوى النصية (كما يسميها يقطين) تثقل كاهله وتجعل المتلقي مستعدا لما سيتابع من شقاء أيامه متأرجحا سعادة لا يجدها وألما لا يغادره. أحد هذه الدعاوى النصية كانت على لسان قارئة الكف من النوّر التي التقاها في زيارته للأردن صارت فيما بعد رفيقة أسطورية له، ودخل الراوي عن طريقها متأملا في تاريخ هذه الجماعة الغريبة بطبيعة حياتها المختلفة وقيمها التي تتبناها، وحقق تصورا مميزا لتاريخ شعب عجيب. دعوى نصية أخرى كانت على لسان الأم ضمن هذا الحشد من الفواعل العاملة لخلق التوتر والتوجس من المستقبل.
نتابع حركة المهدي مكانياً بين مصراتة ولبدة طرابلس والجبل الغربي، بالإضافة إلى الأردن ومصر، وكانت صورة المكان ترتبط بالحالة النفسية التي تعيشها الشخصية الرئيسية المهدي وتتأرجح بحسب حالته فتكون بحسب اللحظة السردية والنسق الزمني المستخدم، كما صاحب حركة الشخصية الرئيسية حركات أخرى لباقي الشخصيات حيث تابعنا حركة فتاة النوّر منطلقة من مكان اللقاء بالأردن إلى مجاهل التاريخ والجغرافيا، وتابعنا عن طريقها تاريخ هذا المكون الغريب في تصرفاته، كانت النقلة المكانية تتضمن نشاطا تحليليا وثقافيا للبعد الأنثروبولوجي لهذه الجماعة. هذه الحركة المكانية صاحبها كما سيتابع القارئ نشاطا وصفيا مميزا جعل من الأمكنة حية مرتبطة بتلك اللحظات السردية التي مرّ بها الشخصية الرئيسية ومن هم حوله ضمن مجتمع النص.
تابعنا حضور شخصيات تكاد تشعر بها نابضة بالحياة حية، ومنها شخصية جمال الذي كان الراوي يبكي (بشكل غير مباشر) جريمة قتله في الصحراء في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. جمال كان أداة لرفع وتيرة السرد، عبر صورته المميزة شابا ثم البكائية المميزة التي حاكها حوله، حركة تأملية لما يمكن أن يكون قد حصل له في الصحراء. أيضا نتابع حضور شخصية رمضان، الذي وجدناه مصابا يكاد يموت في نهاية الرواية وقد كان ضابط الإيقاع في العلاقة بين المجموعة في الجامعة في الزمن القديم، رمضان كان رفيقا مميزا للطالبة التونسية حفيظة المختلفة والمتحررة. أيضا نتعرف على عبدالله رفيق المهدي في رحلته الروحية، المتنقل في بقاع السحر والعلاج بين المرضى هنا وهناك، ضمن حركة لا تخلو من شبق وضيع.
كانت الشخصية الحاضرة باستمرار والغائبة في الآن ذاته هي الزوجة ياسمين، كانت علاقتهما معا قاصمة الظهر للشخصية، وكان الراوي وهو يسلح صورة ياسمين في بداية الرواية بمئذنة المسجد خلفها كأنما يريد ان يهرب من صورة المرأة التي طالما عرفها شبقة شقية.
ياسمين وهي تظهر في بداية الرواية مجاملة محاورة متحدية في الآن ذاته لن تكون كذلك في نهايتها، فماضي المهدي وشعوره بالخطيئة ومكونه الديني الواضح رغم كل محاولات الإخفاء (هذه الخلطة العجيبة كلها) ستجعل من حياتهما جحيما؛ باعتباره لم يكن شيخا ورعا ولا امتلك قلب فاجر.
من زاوية أخرى فإن صور الرواية تنفتح في معناها وتحتاج لقارئ متأمل؛ خاصة ونحن في لحظات شطح الشخصية الذي يرى العالم من بطن ضبع، أو من وعي مهووس بالجان والسحر والطلاسم، أو من وعي باحث بين النسوة عن أم مفقودة؛ أم ماتت وهو صغير، تلك الصورة التي قد تكون مصدر طمأنينته لو وجدها، الأمر الذي يجعله يحاول باستمرار (رغم كل ما يبذله من محاولات إخفاء) أن يبرز عيوب ياسمين التي كانت رغم كل ذلك زوجة وأمّا وطبيبة. يظل هذا التقديم عاجزا عن قول كل شيء؛ لأن هناك ما هو خفي فعلا وقد لا يدرك بسهولة، ولأن وظيفة التقديم هي التعريف لا التصريح))