
العربي الجديد-
يوثق التحقيق كيف تستهدف حملات منظمة ناشطات ليبيات ومدافعات عن حقوق الإنسان ضمن نمط متكرر أجبرهن على مغادرة أماكن سكنهن، وفي مرحلة لاحقة السفر خارج البلاد حفاظاً على حياتهن المهددة بسبب حضورهن في المجال العام.
– لم تنج الناشطة الليبية” أسماء خليفة” من العنف الرقمي، بالرغم من كونها مدافعة عن حقوق المرأة، بل تعد واحدة من أبرز الأصوات النسوية في شمال أفريقيا، وحائزة على جائزة لوكسمبورغ للسلام عام 2016، وشريكة في تأسيس حركة النساء الأمازيغيات (مركز فكري حقوقي)، وركزت خلال مسيرتها على قضايا النوع الاجتماعي والمجتمع المدني في وطنها، كما كافحت ضد زواج الأطفال، لكن ذلك الرصيد الحقوقي كله لم يحمِها من حملات تشويه متواصلة على الفضاء الإلكتروني تلاحقها منذ عام 2015، بعدما قادت حملة لتوثيق العنف الجنسي ضد النساء والرجال في ليبيا.
في حديثها لـ”العربي الجديد”، كشفت “خليفة” كيف حوّلت تلك الحملة حياتها إلى كابوس قائلة: “تلقيت رسائل تهديد بالاغتصاب من حسابات تحمل شعارات وأعلام تنظيم داعش، وفي كل مرة كانت تصل من صفحات مختلفة مزيفة وحديثة الإنشاء”، منذ ذلك الوقت، امتنعت عن النشر في فيسبوك، وتوقفت عن قراءة الرسائل، لكن لاحقاً، تطوّر الأمر إلى حملات تشويه ممنهجة، واتهامات ملفقة، تمثلت في تداول صورها الشخصية مشوهة، أو مركبة بطريقة غير أخلاقية، بهدف المسّ بسمعتها، كما تعرّضت لاتهامات علنية بـ”الخيانة” و”العمالة” والطعن في أخلاقها ومبادئها، ومضايقات متواصلة شملت حتى أفراد أسرتها.
تزامن ما تعرضت له “خليفة” مع مواجهة سيدات من ناشطات المجتمع المدني لحملات مشابهة، الأمر الذي دفع العديد منهن إلى تعليق نشاطاتهن أو تقليص وجودهن في الفضاء الرقمي، وبلغ الأمر ببعضهن أن يُغادرن البلاد أو يذهبن إلى قرى نائية خاصة أن التهديدات والتشهير لم تقتصر على شخصهن، بل طاول أسرهن بحسب ما يكشفه نمط متكرر، لاستهداف عشر حالات يوثق تحقيق “العربي الجديد” ما جرى لها.
في مرمى التشهير
خلال عملها، توثق المحامية جميلة بن عتيق موجات متصاعدة من العنف الرقمي الذي يستهدف الناشطات في المجال العام والحياة السياسية، كما تقول السيدة التي تشغل أيضاً منصب رئيسة منظمة إحقاق للتنمية المستدامة لحقوق المرأة والطفل غير الحكومية، موضحة لـ”العربي الجديد” أن: “العنف الرقمي الذي ترصده من خلال الشكاوى المتواترة التي تصل إلى منظمتها، ليس مجرد شتائم أو رسائل تهديد، بل هو منظومة ممنهجة من التنمر والتحريض، وخطاب الكراهية والتشهير والتحرش الجنسي، وحتى انتحال الهوية، ورأينا حالات تُنشر فيها صور خاصة للناشطات، أو تُفبرك حسابات وهمية بأسمائهن لتشويه سمعتهن وابتزازهن”.
ويتطابق ما جاءت به عتيق مع ما يوثقه تقرير “العنف الرقمي ضد المدافعات والناشطات في ليبيا”، الصادر في مارس 2023 عن مركز مدافع لحقوق الإنسان (غير حكومي)، مؤكداً أن خطورة الحملات تلك تكمن في تحريض المواطنين ودفعهم للانخراط فيها ومن ثم توسع انتشارها.
وتضرب عتيق مثالاً على ذلك تتذكره خاصة كونه شكّل علامة فارقة في بروز وتصاعد العنف الموجه، خلال الهجمات التي استهدفت مرشحات للانتخابات التشريعية في ليبيا، في عامي 2012 و2014، حين اضطرت الكثير من النساء إلى إخفاء صورهن من الملصقات الانتخابية، أو حتى الانسحاب من المشهد العام خوفاً من الوصم الاجتماعي.
وتقول بأسى: “كنا نشاهد بأعيننا كيف تُلطخ وجوه المرشحات بالطلاء، أو تُمزق صورهن، في حين تُترك صور المرشحين دون مساس، في رسالة واضحة مفادها أن وجود المرأة في السياسة مرفوض والسلوكيات ذاتها انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي”.
ولا تختلف تجربة الصحافية والناشطة في مجال حقوق النساء نهلة مهدي عما سبق، فما يحدث هو عنف منسق وفق إفادتها، إذ طاردتها سلسلة طويلة من المضايقات لسنوات، بدأت كما تقول لـ”العربي الجديد”، عقب مشاركتها في تظاهرة عام 2013 للمطالبة بمبدأ فصل السلطات، وما لبثت بعدها أن انتشرت صورها عبر صفحات وهمية على “فيسبوك”، أبرزها حساب باسم مستعار يدعى خالد البوني، بدأ بنشر تصريحات ملفقة ونسب إليها أفكاراً متطرفة وتصويرها بوصفها “ملحدة”، لكن الأمر لم يقتصر على التشهير، بل تطور إلى نشر صورها الشخصية، والتحريض المباشر ضدها، وصولاً إلى التواصل مع أصدقائها وأفراد من محيطها الخاص وتشويه صورتها أمامهم.
مغادرة البلاد أو القتل
“كلما تحدثت أو كتبت، كانت الصفحات ترد، تشوّه، وتحرّض، لدرجة أنني أصبحت لا أعرف معنى الأمان، ورغم علمي أنني لست الوحيدة، لكن لم يكن أمامي سوى مغادرة ليبيا لحماية نفسي”، تقول مهدي بحسرة، وتشير إلى أن الحساب ذاته الذي يهاجمها أو الجهات التي تقف وراءه، استهدف أيضاً ناشطات أخريات، ضمن نمط من التشهير الإلكتروني المتعمد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ولم تأت مخاوف مهدي من فراغ، فالتهديدات بالقتل تؤرق حياة الناشطات، ومن بينهن عضوة في المجلس الوطني للحريات (هيئة حكومية)، اختارت تعريف نفسها بفاطمة أحمد، بدلاً من اسمها الحقيقي نظراً للتهديدات المستمرة التي تطاولها، قائلة إن أولى موجات العنف الرقمي التي واجهتها بدأت مع انخراطها في العمل الحقوقي عام 2013، عندما بدأت بالدفاع عن حقوق النساء وتجريم العنف المنزلي، وقتها “وصلتني رسائل تهددني صراحة بالقتل، وتتهمني بأنني أروّج للماسونية، وأن الإسلام لا يجتمع مع الحقوق المدنية، كان الربط غريباً، لكنه متعمد لإرهابي وإسكاتي”.
ويتكرر الأمر على وسائل التواصل الاجتماعي عقب كل حملة تطلقها وزميلاتها سواء لدعم ضحايا، أو رفض قوانين جائرة، وبلغت الهجمات ذروتها أواخر عام 2021، عندما أطلقت في المنصة النسوية “نون”، المعنية بقضايا النساء في ليبيا، حملة ضد زواج القاصرات الذي تصاعد نتيجة إقرار منحة مالية عبر صندوق تيسير الزواج، إذ لاقت الحملة صدى إعلامياً واسعاً وأسهمت في تحريك الرأي العام، ما أدى إلى وضع حد أدنى لسن الزواج، لكن النجاح لم يكن بلا ثمن، فقد تلقت وزميلاتها تهديدات بالتهجير والقتل، وتعرضن لحملات تكفير منظمة، ما اضطرهن إلى تجميد المنصة وإخفاء هوياتهن حفاظاً على سلامتهن.
ثمن خطاب الكراهية
يستعرض الحقوقي رضا افحيل البوم، مؤسس منصة “كفى” لرصد خطاب الكراهية والتحريض، بدايات تصاعد العنف الرقمي الممنهج ضد النساء في ليبيا، معتبراً أنها تعود إلى عام 2012، حين بدأت أولى حملات التشهير والتجييش عبر الفضاء الإلكتروني، مستحضراً حالتين بارزتين في هذا السياق أولاهما الأستاذة الجامعية الليبية عائشة إدريس المغربي التي درست مساقات فلسفة الجمال في عدة جامعات، والصحافية سناء المنصوري، وكلتاهما وُضعتا في مرمى هجمات منظمة، بسبب آرائهما التي وُصفت من أطراف متشددة بأنها “منحرفة”، في لغة تحريضية باتت تتكرر لاحقاً مع العديد من الأصوات النسائية كما يضيف: “مع تصاعد الاستقطاب السياسي والديني، تمددت هذه الحملات من شرق البلاد إلى غربها، وتداخل العنف الرقمي مع خطاب الكراهية في الإعلام، وصفحات التواصل الاجتماعي”.
لكن المؤسف أن هذا العنف لم يقتصر على العالم الافتراضي، بل انعكس على أرض الواقع، وظهر في سلسلة من الاغتيالات السياسية والحقوقية، طاولت المحامية والناشطة في مجال حقوق الإنسان سلوى بوقعيقيص، التي قتلت في بنغازي، وكانت من الوجوه النسائية البارزة في مرحلة ما بعد ثورة 17 فبراير 2011، وكذلك انتصار الحصايري عضوة مبادرة تنوير الشبابية الفكرية، وعمتها، اللتان عُثر على جثتيهما في صندوق مركبة بطرابلس في فبراير 2015، ورغم فداحة الجرائم، لا تزال معظم هذه القضايا حتى اليوم مقيدة “ضد مجهول”.
لذا تبلغ مؤسسة كفى إدارة “ميتا” عن المحتوى المحرض على العنف ضد نشطاء حقوق الإنسان والصحافيين على “الفيسبوك”، يقول “البوم” كشفت نتائج رصد المنصة أن نحو 40% من المحتوى المسيء كان موجّها ضد نساء ناشطات في المجال الحقوقي، وتمكنت المنصة في الفترة الممتدة بين ديسمبر 2022 إلى إبريل 2023 من إغلاق ثلاث صفحات عامة ليبية مخصصة لمهاجمة النساء، إحداها بلغ عدد متابعيها 526 ألف متابع، ووثقت 70 منشوراً تحريضياً في 41 صفحة فيسبوك ليبية، وتم حذف 40 منشوراً منها بعد الإبلاغ عنها أي ما يعادل 57% من ذاك المحتوى، وشكلت حالات العنف الرقمي التي استهدفت النساء من ناشطات المجتمع المدني والصحافيات والإعلاميات في ليبيا بواقع 50 حالة ، نسبة 69.5% من الإجمالي، وتمت إزالة المحتوى التحريضي في 29 حالة مع إغلاق الحسابات الوهمية.
وفي ظل هذا الواقع، تتنصل السلطات من محاسبة الجناة ووضع حد لتلك الممارسات، إلى جانب عزوف خبراء التقنية الذين يقدمون المساعدة لضحايا الجرائم عبر الإنترنت عن التعامل مع مؤسسات المجتمع المدني في هذا المجال، وهو ما أدى إلى توقيف خدمات الشبكة الليبية لمكافحة الجريمة الإلكترونية (مبادرة مجتمعية)، بحسب ما جاء في تقرير العنف الرقمي آنف الذكر، فلم يعد أمام الليبيات سوى خوض المعركة وحدهنّ ومن بينهن أحلام بن طابون، الناشطة الحقوقية والمستشارة السابقة لوزيرة شؤون المرأة (استمرت في المنصب حتى عام 2021) التي أدرج اسمها ضمن “قوائم اغتيال” وطاولتها حملات تحريض إلكترونية شملت محاولات اختراق حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب اعتراضها على سياسات إعلامية وتشريعية، ما أجبرها على مغادرة البلاد، ومع ذلك لم تنته تبعات هذا العنف فما تزال عائلتها تعاني آثاره الاجتماعية والنفسية.
فجوة الثقة في القضاء
لا تتوقف معاناة الحقوقيات الليبيات عند حدود العنف الرقمي، بل تمتد إلى الخوف من الإبلاغ والملاحقة القانونية، نتيجة انعدام الثقة في المنظومة القضائية، كما توضح الحقوقية عتيق أن معظم من لجأن إلى طلب المساعدة القانونية يفضلن التسوية خارج أروقة المحاكم، خشية الانتقام أو التشهير بهنّ وبأسرهن أيضا، وتضيف أن غياب آلية وطنية متخصصة في رصد العنف الرقمي يجعل من الصعب حصر عدد الضحايا، باستثناء رصد جزئي تقوم به منظمات دولية محدودة.
الواقع هذا تؤكده شهادة الناشطة خليفة، فقد اختارت الانسحاب من عملها في بعض المنصات بدلاً من تقديم شكوى، موضحة: “لم أشتكِ، لأنني أعرف أن القانون قاصر، ولم أكن أعلم من يلاحقني تحديدًا”.
في المقابل، يرى العميد متقاعد فرج بشير برنوص، المستشار الأمني في البحث الجنائي وخبير محلّف في الجرائم الإلكترونية، أن آليات التبليغ موجودة وتكفل السرّية التامة، من خلال الشرطة، أو عبر تطبيق “الداخلية موبايل” الذي يضمن إخفاء بيانات المُبلّغة وإحالة الشكاوى إلى الجهات المختصة، مؤكدا أن 90% من قضايا العنف الرقمي في ليبيا تستهدف نساء.
ولذا تتواجد مكاتب إدارة مكافحة الجرائم الإلكترونية وتقنية المعلومات التابعة لإدارة المباحث الجنائية، ووظيفة هذه الإدارة تعقب الجناة واتخاذ الإجراءات اللازمة ضدهم ومن ضمنها مسألة إحالتهم للنيابة العامة، “رغم ذلك فإن ثقافة التبليغ لا تزال محدودة”، يؤكد المحامي المختص في قضايا العنف الرقمي والابتزاز، أحميد المرابط الزيداني، مشيراً عبر عمله على ملفات للنساء ضحايا الجرائم الإلكترونية، إلى أن عدد الشكاوى الرسمية لا يتجاوز عشر حالات شهرياً، بينما في الأغلب “المستهدفات يخترن إغلاق حساباتهن على وسائل التواصل الاجتماعي ويقللن من تفاعلهن حفاظًا على خصوصيتهن وسلامتهن”، وتتفق معه الناشطة خليفة، قائلة: “هذا ما فعلته أيضاً”.