وال-
حتى بعد مرور كل هذه السنوات على صدوره وعلى أهميته في بابه ومحتواه، لم يستطع أن يستثير في همة الباحثين والكتاب والمهتمين من الليبيين، سوى إنتاج بضعة مقالات، تندرج جميعها في خانة التعليق والملاحظات الانطباعية.. ونظرا لأهمية الكتاب، أجدنا مرة أخرى نجدد الاهتمام به في هذه الافتتاحية لعلنا ننجح في استفزاز أحد المختصين للرد على ما جاء فيه من فرضيات واستنتاج.
عن الدار المتوسطية للنشر صدر في تونس العام 2014 م كتاب الباحث التونسي الذي رحل عن دنيانا بسبب فيروس كورونا المنصف وناس الموسوم بـ “الشخصية الليبية.. ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة”، الكتاب يقع في مايربو عن المائة صفحة من القطع المتوسط، تناول الكاتب خلالها، أزمة المجتمع الليبي الراهنة من منظور اجتماعي، معتمدا منهجية الملاحظة “الانثروبولوجية” وتحليل مضمون عينة من الشعر الشعبي الليبي، مرتكزا في تحليله على ما أسماه “الشخصية القاعدية” وهي، كما يعرفها، محصلة تراكمات تاريخية واقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية تمتد طيلة آلاف السنين، طبعت الإنسان الليبي بطابع خاص وأكسبته صفات معينة وتحكمت إلى حد ما في تمثلاته للحياة وسلوكياته وخاصة في علاقاته الاجتماعية.
يعمد الباحث في مقدمة كتابه إلى وضع عدة تعريفات إجرائية لحزمة من المصطلحات التي يتداولها في سطور كتابه، مثل مصطلح البداوة، التي يقول عنها إنها منظومة ثقافية سالبة تحتقر العمل والجهد والنشاط الحرفي واليدوي وتترفع عنهما، فالبداوة أعمق من أن تكون مجرد نظام اقتصادي كما اختزلها ابن خلدون – إنها أساسا نظام ذهني وثقافي ورمزي وقيمي شديد التأثير في سلوكيات الإفراد (البداوة الذهنية) وهي الأدوم والأكثر فاعلية في بنية المجتمع ومعايش الأفراد..
بعد تأثيث الإطار النظري للموضوع يقتحم المؤلف، الفضاء الليبي عبر بوابة التاريخ أولا، حيث يستعرض في عجالة طابور الغزاة الذين سجلوا حضورهم على رمال هذه الأرض. من فينيقيين ورومان، إلى الوندال والإغريق، وبيزنطيين وعرب مسلمين، وصولا إلى الهلاليين والأغالبة والحفصين والعثمانيين، وأخيرا الطليان والإنجليز..
وفي التقاطة تبدو جريئة من طرف متخصص في الانثروبولوجي يقرر “منصف وناس” أن ليبيا لم تجابه أزماتها التاريخية إلا اعتمادا على العامل الخارجي ويورد -على سبيل الاستشهاد- نماذج ووقائع موثقة تثبت صحة فرضيته:-
سنة 805 م، حمت الدولة الأغلبية إقليم طرابلس الغرب من الاضطرابات والتوترات التي وسمت المرحلة.
سنة 1242 م، أنقذ الأمير الحفصي “أبو زكريا يحي”، إقليم طرابلس الغرب من أطماع ملوك أراغونا وصقلية، ومن الاضطرابات التي كان يثيرها أبو عبد الرحمان ابن محمد الهرغي..
عام 1551م، أنقذ العثمانيون ليبيا من الاحتلال الإسباني ومن فرسان القديس يوحنا الذين سيطروا في الفترة (1530- 1551).
1835م، عاد العثمانيون للتدخل وإنقاذ ليبيا بعد انهيار الأسرة القرمانلية..
1947م، طرد الحلفاء بقايا الاستعمار الإيطالي من ليبيا..
1951م واجهت الحكومة الليبية أزمة ‘اقتصادية ومالية خانقة فعمدت حكومة مصطفى بن حليم إلى تأجير قاعدتين عسكريتين أمريكية وبريطانية مقابل مبلغ إجمالي قدره 7 مليون دولار..
وحيث ينتهي “وناس” من سرد استشهاداته ومصطلحاته الضرورية، يشتبك مباشرة مع المشهد الليبي الاجتماعي فيقول:- على الرغم من أن الريع النفطي حقق لليبيين نسبة تحضر تفوق السبعين بالمائة، وهي أهم نسب التحضر في أفريقيا والعالم العربي.. وعلى الرغم من أن ليبيا بسبب ما أشاعه النفط من نشاط اقتصادي واجتماعي، اكتظت بالمدن والمراكز العمرانية على طول الشريط الساحلي، غير أن القبيلة بقيت قوية ولا تزال خصائصها الذهنية والثقافية مؤثرة في المعيش اليومي الليبي، خاصة في العلاقات والسلوك والبنيات الذهنية كما يسميها عالم الاجتماع “لوسيان غولدمان”.
الفرضية التي ينطلق منها الباحث والنتيجة التي يحاول برهنتها على مدى صفحات الكتاب، أن المجتمع الليبي أسير حالة من البداوة الذهنية، التي يمكن أن تندثر شروطها المادية والاقتصادية، لكنها تستمر في تأثيرها على الواقع الاجتماعي والسياسي للأمة؛ لأنها منتجة لمنظومة تمثلات ثقافية.. وكما نوهت مفتتح المقالة، أنه على الرغم من موجة الاستياء التي أثارها الكتاب في الأوساط الثقافية والأكاديمية الليبية.. لم يستفز أحدا من الباحثين وأساتذة الجامعات للرد عليه ردا علميا منهجيا، يصحح على الأقل جزءا من الفرضيات والاستنتاجات الإطلاقية التي تبناها الكتاب وصاحبه.