الزاوية الأسمرية.. ح 2

* كتب/ وليد عمران،
تعد منارة الأسمري منارة علم لسكان المنطقة وتحفيظ كتاب الله، والتي عرفت عن طريق شيخها سيدي عبد السلام الأسمر كزاوية لتعليم القرآن والعلوم الشرعية، وهي من أقدم الزوايا المنتشرة في ليبيا، أسسها الولي الصالح الشيخ الأسمر، الذي استقر بمنطقة زليتن لخدمة الدين والعلوم والإنسان، وهو ما أثمر تخريج عشرات المشايخ وحفظة القرآن، فحين عاد الشيخ الأسمر إلى هذه الأرض الطاهرة الطيبة، واختار هذه المنطقة التي تعرف اليوم بزلتين، بعد أن كان قد غادرها، بنى بها دوراً كانت للشيخ وللزاوية هي الحاضن الأول، وبعد أن استقر الشيخ وأسس قواماً للحياة بدأت الزاوية تستقبل الطلاب وتخرجهم، جيلا بعد آخر، وبدأت روافدها العلمية تنتشر وتمتد في كل اتجاه، الأمر الذي أحدث طفرة علمية، وأنتج ثروة معرفية كان لها الصدى الواسع في مختلف مناكب الأرض، كانت الزاوية في عهد مؤسسها الشيخ عبد السلام الأسمر مبنية من الطوب التقليدي، وتم بعد ذلك إجراء ترميمات وتعديلات عليها وفق النمط الحديث، وشكلت الزاوية تاريخاً حافلاً بالعطاء، وذاكرة حبلى بشتي العلوم الشرعية، أسسها الشيخ الأسمر في القرن السادس عشر بمدينة زليتن.. هي منارة للعلم والقرآن وعطاء يتكاثر، وصرح ديني شامخ، يعكس تمسك المنطقة بتدريس تعاليم ديننا الحنيف، وتحفيظ كتاب الله، فيها يتلى القرآن آناء الليل وأطراف النهار، طلبة من مختلف مناطق الوطن، يقصدون الزاوية للحفظ وختم القرآن الكريم.
وبالإضافة إلى دراسة وحفظ كتاب الله العزيز، تدرس زاوية الشيخ الأسمر العديد من العلوم في الفقه والسيرة النبوية، وتسهم في بث العلوم الشرعية واللغوية وتكريس ثقافة الاعتدال والوسطية، وفق مناهج مدروسة.
أسلوب تعليم القرآن في الزاوية يعتمد على الحفظ بالألواح الخشبية، واستعمال المسائل القديمة، قلم مصنوع من القصب، وحبر يُصنع من الصمغ يسمي الدواية، وهي طريقة تعود إلى زمن بعيد، استعمله السلف ولا يزال الخلف يحافظون عليه إلى يومنا هذا، حيث يتم حفظ القرآن الكريم بالطريقة التقليدية، التي تعتمد على الحفظ بالألواح.
نظام محدد يسير عليه الطلبة لمباشرة الحفظ والمراجعة منذ الصباح الباكر، بمتابعة المشايخ المشرفين على التعليم، حيث يتحلّق طلبة القرآن الكريم الذين يتفاوتون في مستوياتهم، تفاوتهم في أعمارهم، حول شيخهم، وهم يتلون آيات الذكر الكريم على نهج الزاوية الأصيلة، فينهلون من معينها، وهو ميراث مازالت الزوايا تحافظ عليه وتتمسك به في شكله ومضمونه، وكذا من خلال استخدام الألواح الخشبية، وحتى في طريقة إعداد المداد.
ولا تخلوا الزاوية من طالب مترنم للقرآن الكريم، تحدوه همة عالية في أن يكون من حملة كتاب الله، وكانت الزاوية الأسمرية واحدة من الزوايا التي تتكفل الدولة بنفقاتها، تشجيعاً على تعلم وحفظ كتاب الله العزيز، والزاوية لا تزال إلى غاية اليوم على مكانتها في المجتمع في ليبيا، تستقطب الصغير قبل الكبير، رجالاً منهم ونساء، لتعليم الدين وحفظ كتاب الله، وأضحت موروثا ثقافياً وصرحاً دينياً، كانت ولا تزال تساهم في تكوين الطلبة، وحفظة كتاب الله، فكانت فضاء دينيا علميا تربويا أريد له أن يكون قبلة لاكتشاف إرثه التاريخي.
لقد نذر الشيخ الأسمر حياته لنشر دين الله وبثه في صدور الرجال، بأدوات بسيطة: لوح خشبي يحمله الطالب، وحبر يستخدم في الكتابة، هي ركائز يعتمد عليها في زاوية قضت علي دياجير الجهل وظلماته، شيخاً احبه الله وولّاه، فأحبه الناس وهوت إليه أفئدة الخلائق من مشارق الأرض ومغاربها، وانصب عليه المريدون والطلاب من كل حدب وصوب، حيث يهجر الطلاب كل مغريات الحياة مولين وجوههم شطر العلوم، متدرجين في تحصيلهم وفق منهاج اختطتها أجيال سابقة،
وبهذا اجتذبت زاويته آلاف الطلاب الذين نهلوا عشرات السنوات، من علم أصيل غزير.
زليتن هذه المنطقة المشعة علماً وهدى، صارت مدينة ذائعة الصيت، لارتباطها بهذا المعلم، ولشهرتها الكبيرة فإن كثيرا من الناس صاروا ينتسبون إليها ولشيخها، عند التعريف بأنفسهم لدى أبناء القبائل والمدن الليبية الأخرى.
هي منارة للعلم والقرآن، وتاريخ عريق، ومخزن ديني وعلمي؛ لما تزخر به من علماء ومشايخ، فالزاوية استقطبت عبر تاريخها الكثير من العلماء والمشايخ..
زاوية الشيخ الأسمر وبعد أن تأسست على يد الشيخ كان لها في الماضي الدور الكبير في دعم المجاهدين وحركة الجهاد في ليبيا، وهي اليوم منبراً لتعليم القرآن الكريم وعلوم الشريعة وأصول الدين، وعلى بساطتها شكلت الزوايا جوامع متنقلة ضاهت أعرق المؤسسات التعليمية في المشرق والمغرب.
الشيخ عبد السلام الأسمر ذلك الاسم المحفور في وجدان الكثير من الليبيين من الجيل الجديد، لكن تاريخ العلم في المدينة موغل في القدم، وقد اشتهرت زليتن بكثرة الزوايا والكتاتيب القرآنية، التي كانت ولا تزال مقصد العديد من طلبة العلم من مختلف البقاع، ولا تزال هذه المعالم شاهدة على رجال نذروا حياتهم في خدمة القرآن قراءةً و تعلماً، علماء من أمثال الشيخ وغيره، حيث كانت المدينة مركز علم وإشعاع، استنارت بها المنطقة في مختلف العلوم، لا سيما علوم القرآن، وحملت الزاوية علي عاتقها أمنيات وأهداف متنوعة ومتعددة، في مقدمتها إتقان مختلف العلوم والمعارف.
وتعتبر الزوايا اللبنة الأولى والركيزة الأساسية لبناء صرح معتقداتنا الدينية ومقوماتنا الذاتية، فهي مصدر للتعاليم الدينية من جهة، ومنبع للعلوم والمعارف الإنسانية من جهة أخرى، وإذا تصفحنا تاريخ أجدادنا نجد للزوايا دور طلائعي في بناء كيانهم الحضاري والثقافي، وكانت زليتن دار علم ودين، زاخرة بالقراء والفقهاء والأدباء وكثرة المساجد والزوايا، فقد جمعت زاوية سيدي عبد السلام بين جدرانها فقهاء أجلاء وطلبة همهم تحصيل علم الأجداد وسير على خطا السلف، في زاوية ذاع صيتها في أرجاء البلاد، فلا عالم ولا متعلم يجهل اسم الزاوية الأسمرية، إحدى الزوايا التي شكلت قلعة لتحفيظ كتاب الله والحفاظ علي الهوية والمرجعية الدينية بالبلاد، مرجعية اتسمت بالوسطية والاعتدال الذي يميز المجتمع الليبي
ولا يمكن الحديث عن تحفيظ القرآن في زليتن وذكر الزاوية الأسمرية والحديث عنها دون استحضار روح شيخها ومعلمها ومؤسس النواة الأولى لزاويتها، الشيخ سيدي عبد السلام الأسمر أحد أقطاب هذه المنطقة وأبرز علاماتها، والذي ينتهي نسبه إلى سيدنا محمد صـلى الله عليه وسلم، والذي فكر في إنشاء زاوية قرآنية ترعى كتاب الله وتحفظ القراءات، فكانت منهلاً لعلوم الدين، ومقصداً لكثير من طالبي العلم، وحفظت القرآن فتخرج على يديه مئات الحفظة، وظل ذلك الإشعاع الثقافي متواصلاً ينير الطريق المستقيم للزاوية ويهدي إلى سواء السبيل، مما جعله قبلة لطلبة العلم الراغبين في التحصيل، إنها زاوية جامعة ترسل إشعاعها في كل الاتجاهات، شأنها في ذلك شأن الزوايا الليبية الكبرى، التي نمت وازدهرت وبقي العطاء ديدنها الذي لا يتغير ولا يتبدل، مهما كانت صروف الدهر وظروف الحياة،
زاوية تدرس القرآن الكريم وعلومه وفق منهج يجعل منها حاضنة تربوية تكسب مرتاديها الأدب والأخلاق الفاضلة، فضلاً عن ما يتعلمونه فيها من علوم شرعية.
أعواما من العطاء خرجت خلالها الزاوية مئات الحفظة والمجازين في عدد من القراءات، زاوية ما فتئت تستقبل الناس من كل الفجاج والأطياف، ممن وجدوا فيها معينا من العلم لا ينضب ومثالاً رائعاً لمعاني الألفة والمؤالفة بين القلوب، وداراً للشمل جامعة، جعلت من التنوع والتباين مصدر ثراء وقوة في مشهد تتماهي فيه الأصالة والمعاصرة.



