الرئيسيةفي الذاكرة

الزاوية الأسمرية/ ح (1)

 

ارتبط التعليم في ليبيا منذ الفتوحات الإسلامية الأولى بالزوايا، وقد قامت الزوايا بتلقين العلوم النقلية، كالعلوم الشرعية والعلوم اللغوية، وساهمت بشكل كبير في تكوين حملة وحفظة لكتاب الله تعالى في جميع أرجاء ليبيا، ولها مساهمة أيضا في توفير الأوطار المؤهلة والكفاءات العلمية في مجال الإمامة والخطابة.

*كتب/ وليد عمران،

والزوايا ما فتئت تلعب دورا رياديا بالمنطقة، وتساهم بشكل فعال في تأدية رسالتها التعليمية، حيث تخرج منها العديد من الفقهاء وحفظة القرآن الكريم.

فالزوايا جزءٌ مهم من حضارة ليبيا، أسهمت عبر تاريخها المجيد في نشر العلوم، وخرجت علماء كباراً دونوا أسماءهم بحروف من ذهب في سجل تاريخ البلاد،  وعرفت ليبيا عبر تاريخها الطويل حضور الزوايا باعتبارها فضاءات روحية واجتماعية وسياسية، أسهمت بشكل حاسم في توازن الشأن الديني وحماية المجتمع من الانقسامات، فالزوايا لم تكن فقط أماكن للتعبد، بل مدارس لنشر القرآن والعلوم الشرعية، ومراكز لترسيخ العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي والتصوف السني، وهو الثالوث الذي شكل المرجعية الدينية لليبيا، ومن خلال نشر قيم الوسطية والاعتدال والتسامح، حصّنت الزوايا المجتمع الليبي من الانحرافات العقائدية والتطرف، وجعلت من الدين قوة جامعة، بدل أن يكون مصدر فرقة وصراع، ولم يقتصر دورها على الجانب الروحي فقط، بل امتد إلى الوظيفة الاجتماعية، حيث كانت تؤوي الفقراء والمحتاجين، وتوفر لهم الطعام والرعاية، كما تحولت إلى مراكز للوساطة وحل النزاعات المحلية والقبلية، الأمر الذي عزز السلم الأهلي والتكافل بين مختلف فئات المجتمع، كما لعبت الزوايا دوراً سياسيًا بارزا، حيث أسهمت في توحيد الشعب لمواجهة الاستعمار، فتحولت إلى قلاع للمقاومة والنضال، كما أسهمت بأنشطتها في تعزيز الاستقرار الروحي، وبقيت حلقة وصل بين الدولة والمجتمع في مواجهة التحديات الفكرية والدينية.

وإذا كان البعد الديني والسياسي للزوايا واضحاً فإن بعدها النفسي لا يقل أهمية، إذ شكلت فضاءً للعلاج الروحي والنفسي، حيث يجد المترددون عليها السكينة والطمأنينة، عبر الذكر الجماعي والسماع الروحي والحضرة، لقد زرعت هذه الممارسات قيم الصبر والثبات في النفوس، فساهمت في التخفيف من الاضطرابات الفردية والجماعية، ورسخت شعوراً بالأمن النفسي الذي انعكس بدوره على استقرار المجتمع ككل، لهذا أصبح الأمن النفسي جزءا لا يتجزأ من الأمن الروحي، كما أن الزوايا لم تكتف بهذا الدور، بل تحولت إلى مدارس معرفية أنجبت علماء ومفكرين كان لهم أثر عميق في الداخل والخارج، فقد خرج من رحمها رجال، مثل الشيخ أحمد زروق والشيخ الأسمر الذي انتشرت طريقته في شمال افريقيا، حتى غدت جسراً حضارياً بين ليبيا وعمقها الإفريقي.

هؤلاء وغيرهم جعلوا من الزوايا مؤسسات لإنتاج الفكر وإشعاع المعرفة، إلى جانب أدوارهم الدينية والاجتماعية، لقد استطاع الليبيون أن يحافظوا على الثقافة الإسلامية تحت خيامهم، بفضل زواياهم التي شكلت استثناءًا حيّر الكثيرين، وشغلهم ردحاً من الزمن، فكيف بهؤلاء البدو الرحّل الباحثين عن الكلأ والمشتغلين بتتبع مساقط الغيث أن يؤسسوا هذه الجامعة الفريدة.
الزوايا في ليبيا تمتد جذورها بعمق في تاريخ البلاد، ومنذ العهد العثماني كانت لها المكانة البارزة في حياة المجتمع الليبي، والدور الرئيسي في الحفاظ على هوية الليبيين في زمن الاستعمار، وتعتبر الزوايا مهد المجاهدين والمقاومة الشعبية، ابتداء من حركة المقاومة الشعبية التي خاضها الليبيون ضد المستعمر الإيطالي، وفي غمرة ذلك ظهر اسم شيخ الشهداء عمر المختار كحامل لراية الجهاد في ليبيا، والذي جعل من الزوايا قواعد خلفية له، وإبان المقاومة الليبية قامت الزوايا بدور جبار في صناعة التاريخ الحديث، فكانت ملجأ المجاهدين وقادتهم، وبعد استقلال ليبيا خف بريقها وهمشت فاختصر دورها على العلوم القرآنية.
ساهمت الزوايا في حقبة زمنية مضت من تاريخ ليبيا بشكل حاسم في حماية هوية البلاد ووحدتها الروحية، حيث جمعت بين نشر الدين الصحيح، وبناء السلم الاجتماعي، وتعزيز الأمن النفسي من خلال التربية الروحية، وإنتاج الفكر عبر العلماء، لهذا ظلت الزوايا ركيزة أساسية في الحفاظ على الأمن الروحي والتوازن الديني، وأداة من أدوات صيانة المرجعية الدينية، مما جعل ليبيا نموذجاً فريداً يجمع بين الأصالة والاعتدال والاستقرار والانفتاح.
ومن بين الزوايا التي أدت المهمة على مر قرون خلت، وشاع صيتها وانتشر ذكرها في الداخل والخارج، الزاوية الأسمرية بمدينة زليتن، صرح ديني يعود تاريخ إنشائه لقرون مضت.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى