“الدلفاق”. فنان سكنه حب المسرح
كمجذوب في حلقة الحضرة، لا يهدأ، لا يتوقف عن الحركة، يغيب عن الحضور، ويحضر في الآخر الذي يتقمص صورته وحياته، كأنه هو، هو، حياة أخرى تلك التي يحياها على الخشبة، هي غير التي يعيشها خارجها، في كل أدواره المسرحية التي جسدها يعيش الشخصية؛ فتتلبسه، تفرض وجودها فيه، فلا ينفك عنها وتنفك منه، إلا بعد أن يعود من رحلته تلك، إلى واقع يسكن خارج ذلك الفضاء المسحور المسكون بالغرائب والعجائب، فضاء المسرح، ذلك هو الفنان محمد الدلفاق.
*كتب/ علي يوسف رشدان،
منذ أن انطلقت مسيرته المسرحية منتصف الخمسينيات وهو طالب على مقاعد الدراسة ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف مسيرة عطائه المسرحي حتى آخر أيامه، تشرب فن المسرح رفقة زملائه على يد الأستاذ المربي (مختار معافى) حيث كان للمهرجانات والأنشطة التي يشارك فيها طلبة المدرسة في نهاية كل سنة دراسية دور كبير في غرس وتنمية المواهب لدى الطلاب ومن بينها موهبة التمثيل.
حب المسرح عنده دفعه للالتحاق بفرقة المسرح التابعة للنادي الأهلي المصراتي (السويحلي) ليقدم من خلالها بعض الأعمال المسرحية الاجتماعية التي تعالج بعض القضايا الاجتماعية في شكل كوميدي ساخر، ولعل المتتبعين للنشاط المسرحي لا زالوا يتذكرون محمد الدلفاق رفقة الفنان المبروك المجعوك والمرحوم محمد السوكني، ومن فوق ركح مسرح النادي، وهم يفجرون ضحكات المشاهدين في العمل المسرحي “عرس فطيمة” وغيره من المشاهد الضاحكة، والأعمال المسرحية التي قدمها من خلال هذه الفرقة، “وكانت كلمة الله، صندوق العجائب، إرادة شعب” وهي جميعها أعمال اجتماعية باللهجة المحلية من تأليف وإخراج الفنان (إبراهيم إبراهيم الكميلي”
وإن كانت شهرته كممثل كوميدي قد جاءت عن طريق فرقة التمثيل بنادي الاتحاد المصراتي، والتي انطلقت مسيرتها مع انطلاق مسيرة النادي سنة 1965 حيث قدم من خلالها العديد من المسرحيات الاجتماعية مثل: “دموع نص الليل، أبوالبركات، سحب الخديعة، موعد مع القدر” من تأليف وإخراج الفنان (إبراهيم الكميلي) باستثناء مسرحية “أبوالبركات” التي أعدها الكاتب الفنان (خليفة البكباك) وأخرجها (إبراهيم الكميلي) كما قدم من خلال الفرقة نفسها العديد من “الاسكتشات” الضاحكة، والتي برع في تقديمها رفقة زميليه: الفنان “مصباح الفرجاني” والفنان “عمر الكميلي”، كما شارك في تجسيد إحدى شخصيات المسرحية العالمية “الدكتور فاوست” من إخراج الفنان (خالد مصطفى خشيم).
ومن خلال المسرح الوطني بمصراتة، والذي كان من بين أعضائه المؤسسين، وتولى إدارته في فترة من الفترات، ازدادت تجربته المسرحية رسوخا وخبرة وعمقا، فقد تنوعت أدواره المسرحية ما بين التراجيدي والكوميدي، وقد نوهت العديد من الصحف والمجلات التي تتبعت هذه العروض وكتبت عنها، بمستوى الأداء التمثيلي الذي يقدمه هذا الفنان رفقة زملائه، بما أضفى على هذه الأعمال من متعة فنية وأوصلت مضامينها إلى المشاهدين بصورة فنية راقية، شارك الدلفاق في كل الأعمال المسرحية التي قدمتها هذه الفرقة، ابتداء بمسرحية “المروءة المقنعة” مرورا بالمسرحيات اللاحقة لها: المحنة، وابتسمت الحياة، شعب لن يموت، دوائر الرفض والسقوط، باطل الأباطيل، محاكمة رجل مجهول، ما يصح إلا الصحيح، سعدون، القضية، العاشق.
وإذا كان المسرح الوطني بمصراتة قد أقفل أبوابه وتوقف عن الحركة سنة 1976 فإن الفنان داخل نفس محمد الدلفاق، لا يعرف التوقف والسكون، حتى وإن توقف عن الحركة لبعض الوقت، فإن الحنين يشده ليعود مجددا ليمارس عشقه أكثر اندفاعا ورغبة، فبمجرد أن يسمع أن فرقة تنوي تقديم عمل مسرحي وتدعوه للمشاركة لا يتردد، ويكون أول الحاضرين والمضحين في أن يرى العمل النور حاضرا بين يدي المشاهدين والمتابعين، لا يسأل عن اسم الفرقة، ولا عن دوره في المسرحية، وإنما متى يبدأ العمل، هكذا هو، وهكذا يعرفه الجميع، وهكذا سيظل، ولهذا تنوعت أعماله المسرحية وتعددت الفرق التي قدم من خلالها هذه الأعمال؛ فعن طريق فرقة الشعب للفن المسرحي قدم مسرحية “جحا وجحوان” سنة 1981 ومسرحية “شمعة ودمعة” وهما من تأليف وإخراج الفنان (إبراهيم الكميلي)، وعن طريق فرقة الشباب الثائر للمسرح والفنون قدم مسرحية “صوت القرية” من إخراج (مصطفى ابزين) ومسرحية (تراجيديا) من إخراج (زلي عصمان) ومسرحية (رائحة البارود) من إخراج (أحمد إبراهيم حسن) وعن طريق فرقة المسرح الجماهيري قدم مسرحية “ثقوب في الليل” سنة 1989 من إعداد وإخراج “سعيد محمد مسعود” ومسرحية “الزفاف” من إخراج الفنان (عبدالحميد جبريل) ومسرحية “بيت الجنون” للمخرج نفسه، وهو أول عرض مونودراما يقدمه ممثل في مصراتة.
أما عن فرقة السويحلي للمسرح، والتي تولى إدارتها، فقد قدم عن طريقها الأعمال المسرحية الآتية: “النص بالنص” من إخراج صلاح الدين بن صلاح، “بزنس” من تأليف (عبدالله الشيخ) إخراج (محمد اشويشيوة) “دوائر الرفض والسقوط” من تأليف (عبدالكريم الدناع) ومن إخراج (عبدالحميد جبريل) ومسرحية “الصخرة” للمخرج نفسه، وعن مركز الثريا للإنتاج الفني، قدم مسرحية (عتبات) من إخراج (غيث مفتاح).
أعماله المسرحية منذ انطلاقة مسيرته وحتى الآن تجاوزت الثلاثين عملا مسرحيا والعديد من الاسكتشات الاجتماعية المنوعة.
في مجال الدراما المرئية، فقد شارك كممثل في فيلم “تاقرفت” للمخرجين: خالد خشيم وعياد دريزة، كما شارك في مسلسل “الأمس المشنوق” للمخرج خالد خشيم والذي صورت أحداثه في مصراتة، ولم يعرض حتى الآن! كما شارك في المنوعة الرمضانية “يوميات جحوان” من تأليف (إبراهيم الكميلي) ومن إخراج الفنان (أبوالقاسم القط) وعرض بالتلفزيون الليبي سنة 1986، كما شارك في مسلسل (مسارب الزمن) الجزء الاول من تأليف (عبدالله الشيخ)، مسلسل أنشد مجرب 2005 مع الفنان يوسف الغرياني وبعض الأعمال الأخرى.
في مجال الدراما المسموعة، فقد شارك كممثل في مسلسل “العوال” من إعداد وإخراج (محمد علي الدنقلي) كما ساعد في إخراجه، وقد بث عبر إذاعة مصراتة المحلية شهر رمضان 2002.
هذه بعض ملامح تجربة فنان عشق المسرح بكل كيانه، وحمل الفن كرسالة، أعطى للمسرح من جهده وعرقه دون أن ينتظر جزاء ولا شكورا.
انتقل إلى رحمة الله تعالى عن عمر (76 عاما)، ووري الثرى يوم الجمعة الموافق 17/6/2022.
فإذا ما ذكرنا المسرح وأهله في ليبيا؛ لابد وأن يكون الفنان (محمد الدلفاق) بعطائه وتضحياته وتميزه حاضرا في الذاكرة وصوته المنغم تردده فضاءات المسرح، على لسان (سيدي عبودة) في مسرحية (سعدون) للكاتب المرحوم عبدالكريم الدناع:
شدوا احزاماتكم زين *** وكونوا شداد العزايم
والموت راهو بلجال *** والله ما حد دايم
رحم الله الحاج محمد الدلفاق رحمة واسعة