العربي الجديد-
يُقدم ليبيون على إنهاء حياتهم في صمت يلف معاناتهم التي لم ينتبه لها المحيطون بهم، ولا حكوماتهم المشغولة بالصراعات التي لا تنتهي في بلاد تفتقر إلى مرافق للصحة النفسية، حتى إن جنوب البلاد كله تخدمه عيادة وطبيب واحد.
– فُجعت أسرة الطفل الليبي مصعب (14 عاما) بعدما عثرت عليه مشنوقا في غرفة بمزرعة قرب منزله، إثر تعرضه للتحرش وتهديده بالاختطاف من قبل شبان يعيشون بجوار مدرسة قبس المعرفة في قصر بن غشير جنوب طرابلس في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2020، كما يقول والده التواتي راشد: “لم يجد طفلي من يستمع ويدعمه ويقدم له الحماية. كنت كثير السفر بسبب عملي سائق شاحنة، لا أمكث بصحبة أسرتي سوى عدة أيام لأسافر بعدها وأتركهم”، مضيفا لـ”العربي الجديد” أن ابنه لم يخبر الأسرة بما كان يعانيه من تنمر تفاقم على مدار الأيام حتى وصل إلى التحرش.
قبل إقدامه على الانتحار ظل راشد يتغيب عن المدرسة، رغم أنه كان يتجهز كل صباح ويغادر المنزل على أنه ذاهب للدراسة، غير أنه كان يظل في غرفة المزرعة، ويعود إلى المنزل بعد انتهاء الدوام المدرسي، كما أن إدارة المدرسة أبلغت الوالد لدى زيارته بتغيب ابنه لأيام عديدة، دون أن توضح انقطاعه التام عن الدراسة بسبب خوفه من المعتدين وعدم اتخاذ أي إجراء بحقهم ليقدم على إنهاء حياته في النهاية.
ما هو حجم الظاهرة في ليبيا؟
يعد مصعب واحدا من بين 78 حالة انتحار، وقعت في عام 2020، بحسب التقرير السنوي لعام 2020 الصادر عن وزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني السابقة في طرابلس مطلع عام 2021 (سيطرت على مناطق في غرب وشمال ليبيا)، بينما يشير تقرير وزارة الداخلية عن عام 2021 والذي اطلع عليه معد التحقيق أن الوزارة سجلت وقوع 46 حالة انتحار خلال الفترة من يناير حتى يوليو 2021.
وتنقسم الحالات إلى 65% من الذكور، و35% من الإناث كما يوضح التقرير أن 73% من حالات الانتحار موزعة بين الفئات العمرية من 19 إلى 37 عاما، ولا يشمل التقرير كل ليبيا ولكن فقط 24 مديرية في مدن الغرب بالأساس مثل “صبراته، القر بوللي، العجيلات، طرابلس، الخمس، مصراته، الزاوية، وجادو” كما أن حالات الشرق الليبي والمناطق التي تسيطر عليها مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر لم تحتسب بسبب الانقسام بين أجهزة الدولة.
و”بلغ معدل الانتحار في ليبيا 4.5 حالات لكل 100 ألف نسمة بواقع 304 حالات انتحار في عام 2019، من بينهم 206 من الذكور، و98 من الإناث”، وفق تقرير منظمة الصحة العالمية “الانتحار في جميع أنحاء العالم – 2019″ بينما كان المعدل في 5.5 حالة لكل 100 ألف نسمة في عام 2016، بواقع 327 حالة انتحار، من بينهم 258 للذكور، و69 حالة للإناث” بحسب منظمة الصحة العالمية.
وتوصل مركز الدراسات الاجتماعية التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية في حكومة الوحدة الوطنية، إلى أن أعلى نسب تسجيل حالات الانتحار منذ عام 2017 حتى عام 2022 كان في مدن البيضاء وصبراته والقر بوللي، على التوالي، وفق ما تقوله زهرة عويد، مديرة إدارة التوعية والإعلام الاجتماعي، مؤكدة لـ”العربي الجديد” أن الانتحار في صبراته والقر بوللي له علاقة بالمخدرات، خاصة أن المنتحرين من فئة الشباب، وتقول: “يوجد في المدينتين أبرز مراكز عمليات التهريب، سواء المخدرات أو البشر”.
أسباب تفاقم الإقدام على الانتحار
وثق مركز الدراسات الاجتماعية 53 حالة انتحار خلال الفترة من 2017 حتى نهاية 2022 موزعة بين “طرابلس، صبراته، العجيلات، جادو، القر بولي، مصراته، زليتن، الخمس، مسلاته، بنغازي، اجدابيا، البيضاء طبرق، وسبها”، كما تقول فاطمة بلقاسم، عضو لجنة الإدارة، مشيرة إلى أن فرق البحث زارت 10 مدارس في طرابلس خلال الفترة من 2018 حتى نهاية 2022، اكتشفت وجود أطفال (بين 14 و16 عاما) يعانون ضغوطا نفسية واجتماعية قاسية وبعضهم لديه دوافع ويعاني من أفكار انتحارية.
وتتابع: أحدهم تحدث معنا عن أنه يكره الحياة لأن طلباته لا تلبى من قبل والده الذي يجيب دوما أنه لا يملك المال، مضيفة لـ”العربي الجديد”: “الطفل يرغب في ترك أسرته التي قال إنه يكرهها أو الموت”. ورصدت بلقاسم مع فريق البحث طفلة في المرحلة الإعدادية، رسمت بيتها نصفين، وتعيش حالة انزواء وعند البحث وجدوا أن أسرتها تعيش انقساما كبيرا بسبب خلافاتها، مشيرة أن إمكانية وقوف تلك الخلفيات والضغوط وراء حالات الانتحار التي تتفاقم مستوياتها وتتباين بحسب المناطق، إذ شهدت مدينة البيضاء شمال شرقي ليبيا وصول عدد حالات ومحاولات الانتحار إلى 60 حالة في عام 2017، الأمر الذي دفع حكومة شرق البلاد المنبثقة من مجلس النواب الليبي إلى تشكيل لجنة لدراسة ظاهرة الانتحار بالمدينة، حسبما يقول عضو اللجنة، ادريس امطول، والذي أكد لـ”العربي الجديد” أن اللجنة توقفت بعد أسبوعين من تشكيلها، لعدم وجود دعم حكومي، مشيرا إلى أن عدد حالات الانتحار التي وثقتها اللجنة خلال عملها القصير 17 حالة و6 حالات محاولة انتحار.
وتواصل معد التحقيق مع 11 أسرة في مدن صبراته والعجيلات والقربولي وطبرق، وطرابلس وبنغازي، لمعرفة أسباب انتحار أحد أفرادها، وتعيد 9 أسر منها الأمر إلى ما تصفه بـ “سحر”، مبررين ذلك بأسباب تتعلق بتفوق الضحية في دراسته أو أن عمله يجعله هدفا للحاسدين، فيما أشارت أسرتان إلى أسباب أخرى، من بينهما أسرة طلال اللواطي (32 عاما) والذي عثر عليه منتحرا برصاص مسدسه، داخل مسكنه بمدينة بنغازي، في يوليو 2021، حسب ابن عمه أكرم، مؤكدا أن طلال كان مقاتلا في كتائب خليفة حفتر، قبل أن ينخرط في دورات تدريبية، ليشارك في عدة معارك لكن سلوكه بدأ يتغير، إذ كان يتغيب لعدة أشهر عن الالتحاق بالكتيبة التي يعمل فيها، كما كان يتحدث مع الأسرة عن الشعور بالألم كلما تذكر من قتلوا إلى جواره في المعارك، وأحيانا كان يخرج بندقيته ويفرغ كل ما فيها من رصاص في السماء وهو في حالة غضب، وكثيرا ما كان يتحدث عن كراهيته للحياة، مشيرا إلى أنه طلب من والدته فسخ خطوبته قبل إنهاء حياته.
كيف أثرت سنوات الصراع على الليبيين؟
أثرت سنوات الصراع في ليبيا على الصحة العقلية للعديد من الناس بحسب ما أكدته منظمة الصحة العالمية على صفحتها في نوفمبر 2019، ولفتت إلى نتائج دراسة منشورة في يوليو عام 2019 بدورية ذا لانسيت الطبية المحكمة، وأكدت أن واحدا من بين كل خمسة أشخاص في مناطق الحرب المختلفة في العالم يعاني من الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات ما بعد الصدمة أو الاضطراب ثنائي القطب أو انفصام في الشخصية، فيما يعاني الكثير منهم من أشكال حادة من هذه الأمراض العقلية، بينما يرى مركز الدراسات الاجتماعية، أن نسبة الانتحار لأسباب اقتصادية تبلغ 50%، بحسب عويد، لكنها لا تستبعد وجود أسباب أخرى وراء الظاهرة، أغلبها يصب في خانة الاكتئاب كنتيجة لأمراض وضغوط نفسية أخرى، وتقول إن “أسباب الاكتئاب عديدة، مثل فقدان أحد الأبناء، إذ رصدنا انتحار أب في مدينة الزاوية بعد أن توفي ابنه الوحيد في حادث سيارة مؤلم ما أدخل الأب في عزلة ثم اكتئاب قبل إقدامه على الانتحار بواسطة السلاح”.
وتضيف: “هناك أسباب أخرى تتعلق بعدم معرفة الأسر بخلفيات وأعراض الأمراض النفسية التي يدخل فيها الأبناء ويتجه أغلبهم للعلاج بالرقى والتعاويذ ليستفحل المرض وينتهي بالانتحار”، وتابعت: “بعض الأعراض الواضحة مثل عدم الاتزان والعنف مثل الصراخ وتقطيع الملابس لم تدرك الأسر مخاطرها ولم تسارع إلى مواجهة الأمراض النفسية التي تؤدي إليها”.
ما سبق تؤكده دراسة تحليلية تنبؤية نشرت عام 2012 في مجلة علمية تصدر عن المكتبة العامة للعلوم في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا)، عن تأثيرات الصراع الليبي عام 2011 على الصحة العقلية والنفسية للمجتمع، وشملت الدراسة 1.206 مليون ليبي من مصراتة والنازحين إليها وبنغازي والزنتان، والنازحين إلى طرابلس، ومخيمات رأس جدير، وتبين أن نسبة الانتشار الحاد لاضطراب ما بعد الصدمة في العينات التي تعرضت لمستويات عالية من الإرهاب السياسي والأحداث الصادمة بلغت 12.4 %، و19.8% نسبة من يعانون من الاكتئاب الشديد، مشيرة إلى أن هذا يستوجب وجود 154 موظفا للعمل بدوام كامل للتعامل مع هذه الحالات، لكن تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى وجود 0.18 طبيب نفسي وأخصائي اجتماعي لكل 100.000 نسمة في ذلك الوقت، بحسب ما ذكرته الدراسة.
لكن أخصائي الأمراض العقلية والنفسية بمستشفى الرازي الحكومي للأمراض النفسية والعصبية، الدكتور عبد الله البكوش، يرى أن الاكتئاب والأمراض النفسية ليست سبب تفاقم حالات الانتحار، لأن هذه المشاكل كانت موجودة وسط المجتمع منذ فترات طويلة ولم تشهد البلاد ارتفاعا في معدلات الانتحار بسببها، مؤكدا لـ”العربي الجديد” أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وشعور الشباب بالإحباط وتعاطي المخدرات، كلها مجتمعة تؤدي إلى تفاقم الظاهرة.
وبلغت نسبة الانتحار بسبب تعاطي المخدرات والكحول 11.76%، وفق دراسة صادرة عن وحدة البحوث الاجتماعية في مكتب العلاقات العامة بمديرية أمن طرابلس في سبتمبر/أيلول 2020، لكن الدراسة توصلت إلى أن 35.25% انتحروا بسبب الاضطرابات النفسية والاكتئاب، و26.47% بسبب العُزلة والاستسلام لليأس، و17.64%، عانوا من ضغوطات نفسية واجتماعية، و8.82% عانوا من البطالة والفراغ.
غياب الاهتمام بالصحة النفسية
أشرف مركز الدراسات الاجتماعية على 15 دورة تثقيفية وتوعوية بمدارس مدينة طرابلس والمناطق المحيطة بها خلال الفترة من 2018 حتى 2022، لدعم الأطفال نفسيا، خاصة المنتمين للأسر النازحة جراء الحروب، وفق بلقاسم، لكن الأمر لا يكفي لمواجهة الظاهرة إذ تغيب مراكز الدعم النفسي في ليبيا كما تقول عويد، وترجع السبب إلى انشغال السلطات بالأزمات السياسية وما تمر به البلاد من صراعات وحروب، إضافة إلى ضعف التمويل، إذ تحتاج تلك المراكز إلى تجهيز وتأهيل وإعداد للكوادر، ويبدو الأمر في ما ذكرته منظمة الصحة العالمية في فبراير 2019 بعد الاعتداء على الطبيب النفسي الوحيد في عيادة الصحة العقلية بمدينة سبها والتي تعد المرفق الوحيد في جنوب ليبيا، وهو ما أكدت عليه دراسة أسباب ظاهرة الانتحار في مدينة طرابلس، الصادرة في 22 سبتمبر 2020، مشددة على ضرورة إنشاء مراكز علاجية وتأهيلية لمن حاولوا الانتحار أو لديهم ميول للأمر، وتفعيل ودعم الطب النفسي ونشر ثقافة العلاج بين من يعانون من الاكتئاب والاضطرابات النفسية وعائلاتهم.