* كتب/ منصور أبوشناف،
من يعرف “روجيه ليسيل”؟ بالطبع لا يعرفه إلا القليلون جدا، حتى تلاميذ وطلاب بلاده فرنسا لايعرفه منهم إلا القليل، هو مؤلف أغان وطنية وأناشيد، وهو ضابط بالجيش الفرنسي، عاش حروب فرنسا بعد الثورة وزمن “روبسبير وحتى نابليون” ولكن معنى وجوده الحقيقي كان أثناء “حرب الراين” بين فرنسا وألمانيا، فالرجل وبطلب من صديقه العقيد بالجيش الفرنسي والمنتمي لأسرة من النبلاء الذين يحبهم روجيه، كتب “نشيد الراين” للقوات الفرنسية المتقدمة لصد الألمان الزاحفين على الوطن .
“روجيه” وبحماسة وطنية عالية أمضى ليلة كاملة يؤلف ذلك النشيد، يكتب مقاطعه شعرا، ثم يلحن ويعزف تلك المقاطع على آلة الكمان الساهرة معه في غرفة صغيرة بفندق صغير ليقدمه في الصباح لصديقه النبيل الذي أعجب بما صنع شاعره “روجيه”، وتولت زوجة النبيل الموسيقية توزيع وعزف النشيد ليغنيه بحماس متزن جنرالات وضباط من النبلاء، هم “ليسوا ثورين”، مثلهم كمثل روجيه نفسه، هم فقط فرنسيون وطنيون كما يمكن تسميتهم..
لاقى نشيد “روجيه” الثناء من كل أولئك النبلاء، وتم نشره وتوزيعه على كل الوحدات، ولكنه ظل نشيد وحدات ومعسكرات، ولم يهتم به أحد، الكل اعتبره أحد الأناشيد الحربية المعروفة والضرورية بالطبع “دون أن يكون مختلفا عما سبقه من أناشيد”.
“نشيد الراين” أو “نشيد روجيه” كانت ولادته الحقيقة أثناء تقدم فرقة من “مرسيليا” نحو الراين، كانوا ثلاثمائة مجند، كانوا يستريحون قبل مواصلة المسير إلى الجبهة، ووسط الحماس والشعارات والخطب وحتى الهتافات وقف أحدهم وبدأ يغني “نشيد الراين” ليلحق به الثلاثمائة بحماس غريب، صمت كل من حولهم منذهلا لهذا البركان الذي كان يفجره ذلك النشيد .
صار نشيد “روجيه” نشيد كل الفرق المقاتلة ثم صار نشيد الشعب و نشيد فرنسا الثورة، دون أن يعرف أحد أن صاحب هذا النشيد هو “روجيه” الذي لا يحب الثورة ولا الثوار .
نشيد “روجيه” صار يعرف ب “المرسييز” نسبة لتلك الفرقة من مرسيليا، وانتشر عبر العالم كنشيد للثورة الفرنسية ورمزا لها ليصبح بعد ذلك نشيدا لغالبية ثورات العالم.
“روجيه” صاحب هذا النشيد كلاما ولحنا منحته الثورة وحكومتها مكافأة لا يمكن توقعها “تهمة بالخيانة واعتقال في سجون الثورة وقرار بالإعدام”.
لم يعدم شاعر نشيد الثورة.. وأنقذه القدر من مقصلة الثورة ليكمل حياته بعد السجن مهمشا ومشردا وجائعا .
في سبعينيات القرن الماضي، ليبيا أيضا كانت فرنا ثوريا يتقد بنيران الغضب والهتافات والأناشيد القومية الحماسية والعالية النبرة، أما بركان الأناشيد القومية والحماسية في مصر فقد خمد، وانتشرت موجة الأغاني الشعبية، وكان “أحمد عدوية” نجم تلك الموجة .
النجم “عدوية” كان أيضا مادة للشتم والاحتقار، ورمزا للفن الهابط بالنسبة لثوار تلك المرحلة وأساطين نضالها، وكان دور ثوار ليبيا ومناضليها في تلك الفترة كبيرا في شتم موجة عدوية الفنية، وصارت ألحانه وأغانيه مادة لفناني الثورة الساخرين على تلفزيون وراديو وجرائد الجماهيرية الليبية، ولكن فن “عدوية” وبمساندة قدر خفي يحقق اختراقا تاريخيا لأهم منظومة جماهيرية ثورية، أعني “اللجان الثورية” حيث يتحول لحن أغنيته الموسومة ثوريا بالتافهة “سلامتها أم حسن من العين ومن الحسد” إلى اللحن الرسمي للحركة، ويغنيه الأعضاء في كل مناسبة بحماس ثوري كبير “جماهيرية، سلطة شعبية الخ” ليخلد فن عدوية في وكر أعدائه الثورين..
“شعبان عبدالرحيم” تعرض لموجة عارمة من الشتم أيضا من قبل الصحافة والإذاعات، واعتبر عند ظهوره تعبيرا صارخا عما وصل إليه الوضع من ترد وانحطاط، وانهيار لكل قيم الفن العربي الراقي والملتزم بقضايا الأمة، ولكن “شعبان عبدالرحيم” يحقق الانتشار المذهل بين جماهير الشعب الرافضة للتطبيع بأغنيته “أنا باكره إسرائيل”.. ويكون أول مطرب عربي يصل إلى “السي إن إن” التي تجري معه مقابلة حصرية، وتعتبره المعبر الحقيقي عن موقف العرب من إسرائيل، ليجلس “شعبولا” المكوجي كما يسخر منه الإعلام العربي في ذلك الوقت وبفنه “الموسوم بالتفاهة عربيا” أمام كاميرات “السي ان ان” كأي رئيس أو زعيم عربي .
عام 2008 وبطرابلس وبأحد مقاهيها قابلت “روجيه” آخر.. كان وسيما وأنيقا وليبيا، يقول إنه تخرج من كلية الطب وألّف ولحن وغنى في حفل تخرجه أغنية تقول “سوف نبقى هنا.. كي يزول الألم” ثم يشرح لي رسالة أغنيته تلك بأن خريجي دفعته تلك سوف يبقون في ليبيا كي تزول آلام المرضى الليبيين في مستشفيات بلادهم، ولا يضطرون لمعاناة المرض والاستغلال في عيادات الأشقاء، كان ذلك رائعا لاشك .
عام 2011 تحولت أغنية ذلك الطبيب الوسيم إلى “مرسييز” ليبي واهتزت لكلماتها أركان ساحة محكمة بنغازي، ثم ليبيا، لنسمعها بعد ذلك في سوريا، ثم صار الطبيب الليبي “روجيه” آخر بعد مطاردته واتهامه وهروبه من البلاد، متخليا عن “البقاء هنا” وتلاشيه في بحر النسيان..
أغنية الطبيب الليبي الوسيم والهارب من نيران الثورة.. ونشيد روجيه المحكوم بالإعدام من ثوار ثورة نشيده.. وغيرهما من أعمال الفن ظلت وستظل خالدة، وإن أحرق في محارق أعدائها مبدعوها الفانون ككل البشر.