
* كتب/ محمد جمعة البلعزي،
قدّم رئيس حكومة الكيان ادعاءات لا دليل عليها، مِثل أن حماس تسرق طعام سكان غزة، أو أن العديد من قتلى قطاع غزة “مقاتلون” وليسوا مدنيين. ففي خطابه أمام الجمعية العامة بالأمم المتحدة، أدلى نتنياهو بسلسلة تصريحات مثيرة للجدل وغير منطقية، ركزت في المقام الأول على تصوير كيانه كضحية مكروهة.. وفي بعض الحالات كذب صراحةً وحرّف الوقائع وتلاعب بأنصاف الحقائق.
إليكم مراجعة لأبرز أكاذيبه في خطاب استمر أربعين دقيقة في قاعة شبه خالية من الوفود.
الكذبة: “إذا كان هناك غزّيّون لا يملكون ما يكفي من الطعام، فذلك لأن حماس تسرقه”!
الحقيقة: خلال عامين، لم تُؤكّد أي وكالة تابعة للأمم المتحدة أو منظمة إنسانية غير حكومية أو جهاز استخبارات، هذا الادعاء، الذي تُصرّ حكومة الكيان على تكراره دون تقديم أدلة قاطعة.
ادعى نتنياهو أن “الأمم المتحدة اعترفت بأن حماس وجماعات مسلحة أخرى، نهبت 85% من محتوى شاحنات الإغاثة”. وهو تحريف لبيانات صدرت في أغسطس عن مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع، أشارت إلى أن 88% من المساعدات الإنسانية التي دخلت غزة بين 19 مايو (عندما أعادت “إسرائيل” فتح المعابر بعد غلقها لشهرين تماماً) و5 أغسطس، لم تصل إلى وجهتها، حيث “اعترض طريقها الجوعى سلمياً.. أو بالقوة من جهات مسلحة أثناء مرورها بغزة”. فقد أوضحت “أولغا شيريفكو”، من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن الغالبية العظمى من عمليات النهب كانت من عمل “سكان غزة الجائعين، وليس العصابات المسلحة”.
أما الجهات المسلحة، فهي تحديداً مافيات فلسطينية (أساساً عشيرتان عائليتان لهما ماضٍ إجرامي ومعارضتان لحماس)، تشجعها “إسرائيل” لممارسة حيلها القذرة في غزة، بما في ذلك تنفيذ عمليات داخل القطاع، حسب تحقيقات مختلفة، حيث يشير شهود إلى أن قوات الاحتلال تسمح لها بسرقة الطعام وإعادة بيعه بأسعار باهظة، مكافأة على تعاونها.
كثير ما أصرّت الأمم المتحدة على عدم وجود أدلة على أن حماس تسرق المساعدات الإنسانية على نطاق واسع أو ممنهج.. ثم إن المراجعة الداخلية التي أجرتها وكالة المعونة الأمريكية (USAID) لـ 156 حادثة نهب لم تعثر على أي دليل، باعتراف قادة عسكريين إسرائيليين رفضوا الكشف عن هويتهم لتفادي العقوبة والملاحقة.
الكذبة: “إن نسبة القتل بين أشخاص مقاتلين وغير مقاتلين لا تصل إلى 1: 2، وهي نسبة منخفضة بشكل مدهش”..
الحقيقة: كلما مضى الوقت يتبين زيف هذا الادعاء. فالنسب المئوية المدرجة بقاعدة بيانات سرية للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، كُشف عنها في تحقيق نشر أغسطس الماضي، تشير إلى أن 83% من الوفيات هي من المدنيين، بل إن منظمة ACLED المستقلة -التي تراقب النزاعات المسلحة وتدعمها الأمم المتحدة والحكومات الغربية- ذهبت إلى أبعد من ذلك، بأن 15 من كل 16 حالة وفاة في غزة وقعت بين المدنيين. لكن لا الكيان ولا الولايات المتحدة يرغبان في قبول موثوقية البيانات التي تقدمها مستشفيات غزة إلى وزارة الصحة التي تقودها حماس.
مقارنة بالصراعات الأخرى منذ الحرب العالمية الثانية، فإن مقتل قرابة 3% من سكان غزة (أكثر من 65 ألف شخص) في أقل من عامين (عدا عشرات الآلاف المدفونين تحت الأنقاض) يُعدّ أمراً استثنائياً، لا سيما في الصراعات خارج أفريقيا.
الكذبة: “الفلسطينيون لا يؤمنون بحل الدولتين. لم يؤمنوا به أبداً. لا يريدون دولة إلى جانب “إسرائيل”، بل دولة فلسطينية بدلاً من “إسرائيل”.
الحقيقة: في العقود الأولى التي تلت قيام دولة الكيان على 78% من أرض فلسطين التاريخية، تقبلّت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تدريجياً استحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فوافقت في النهاية على الاعتراف بالدولة اليهودية. وفي 1988، لم تعترف بها صراحةً في وثيقة “إعلان استقلال فلسطين”، لكنها ذكرت بالفعل الحدود التي رُسمت قبل حرب الأيام الستة عام 1967. أي ما ليس لـ”إسرائيل” الحق فيه: غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
من ناحية أخرى، على مدار قرابة أربعة عقود، لم تعترف “إسرائيل” رسمياً بحق الفلسطينيين في تأسيس دولة، وهو أمرٌ يدعمه العالم نظرياً. ففي أوسلو، اقتصرت على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. وقد تفاوض بعض قادتها، مثل إيهود باراك وإيهود أولمرت، لاحقاً على خطة سلام تتضمن إقامة دولة فلسطينية، لكن نتنياهو جمّد المفاوضات عام 2014، وعاد في خطابه الأخير ليؤكد أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية أبداً.
الكذبة: “إن قرابة 90٪ من الفلسطينيين أيّد هجوم 7 أكتوبر”.
الحقيقة: تأييد هجوم حماس بين الفلسطينيين كان الأغلب، ثم تراجع في غزة والضفة الغربية، حيث أظهر أحدث استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني لاستطلاعات الرأي وبحوث السياسات، في مايو الماضي، أن 50% اعتبروا قرار حماس شن الهجوم خاطئاً، بينما 40% اعتبره صائباً، في حين أنه في شهر ديسمبر 2023، كانت النسبتين 72% مؤيد و22% معارض.
على أية حال، يستند التأييد الواسع لهجوم حماس إلى عنصرين غابا عن خطاب نتنياهو:
أولهما أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين لا يرون في 7 أكتوبر 2023 مذبحة للمدنيين، بل هجوماً مفاجئاً شنته ميليشيا ذات موارد لا تُضاهى ضد أحد أقوى الجيوش وأكثرها تقدماً تكنولوجياً في العالم، فضلاً عن كونه انتقاماً لعقود من الاحتلال. كما يُنظر إليه على أنه وسيلة لإعادة الصراع في الشرق الأوسط إلى دائرة الضوء العالمية التي اختفى عنها.
يُرجَّح أن يشير الرقم الذي ذكره نتنياهو إلى إجابة عن سؤال ورد في استطلاع للرأي أُجري في نوفمبر 2023، من قِبَل مركز العالم العربي للأبحاث والتطوير، ومقره الضفة الغربية: “على ضوء الأحداث الجارية، هل تشعر بالفخر كفلسطيني؟”. أجاب 94% بأنه “يشعر بالفخر إلى حد كبير”.
كما أن دعم هجوم حماس لا ينبع من الفرح بمقتل مئات المدنيين، بل من إنكاره، رغم وجود أدلة دامغة على حدوثه. إنه نوع من التنافر المعرفي بين دعمهم للهجوم كرمز، والمشكلة الأخلاقية المتمثلة في الاحتفال بمقتل مدنيين. يتجلى ذلك في الاستطلاع المذكور، الذي يسأل عما إذا كانت حماس قد ارتكبت الفظائع التي ظهرت في مقاطع الفيديو، إذ اعتقد 87% أنها لم ترتكبها، إما لعدم مشاهدتها أو لاعتبارها مجرد دعاية، بينما رأى 9% أنها قامت بارتكابها.
وقد روّجت الحركة الإسلامية لفكرة أن هذه حوادث معزولة، نفّذها في المقام الأول مسلحون فلسطينيون آخرون، استغلوا اختراق الجدار العازل حول غزة، والتأخر الكبير في وصول قوات الأمن الإسرائيلية لمنع الاختراق، وإشارتها إلى تقدير عدد الإسرائيليين الذين قتلهم جيشهم خطأً أو تطبيقاً لـ “مبدأ هانيبال” القائم على “قتل الجنود منعاً لأسرهم أحياءً”.
الكذبة: “كانت للفلسطينيين بالفعل دولة فلسطينية في غزة”.
الحقيقة: في 2005، سحبت حكومة أرييل شارون المستوطنين والجنود من غزة من جانب واحد، لكن الأمم المتحدة اعتبرت القطاع ظلّ محتلاً عسكرياً. وبصفتها القوة المحتلة، كانت “إسرائيل” ملزمة بحماية السكان ورعايتهم، لكنها فرضت عليهم حصاراً، بل واحتسبت السعرات الحرارية للفرد لتحديد مقدار ما ستُقيّده من الأطعمة التي تسمح بدخولها لتفادي حدوث مجاعة.
وبموجب القانون الدولي لا تُعدّ غزة كياناً منفصلاً، بل جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية، الخاضعتين أيضاً للاحتلال منذ حرب الأيام الستة في 1967.
الكذبة: “عندما كانت بيت لحم، مهد السيد المسيح، تحت سيطرة “إسرائيل”، كان 80% من سكانها مسيحيين، لكن منذ تولي السلطة الفلسطينية السيطرة عليها، انخفضت النسبة إلى أقل من 20%”.
الحقيقة: مستغلاً أهمية بيت لحم في تاريخ المسيحية، ديانة العديد من حلفائه، تلاعب نتنياهو بالأرقام والدوافع، باختياره بيت لحم كمرجعية لعصر “السيطرة الإسرائيلية”، الذي بدأ في 1967 ولم ينتهِ بعد. كانت بيت لحم ذات أغلبية مسيحية (85٪) حتى قبل قيام الدولة اليهودية عام 1948.
لم يحدث تحول الفلسطينيين المسيحيين إلى أقليّة في بيت لحم، بسبب تولّي السلطة الوطنية الفلسطينية إدارة المدينة في التسعينيات، بل بسبب القيود المفروضة على حركتهم (كالجدار العازل الذي يفصلها عن القدس) والصعوبات الاقتصادية الناجمة عن الاحتلال. هذا الوضع تفاقم مع قمع الانتفاضة الثانية التي وصلت إلى قلب المدينة في 2002، والحصار الشهير لكنيسة المهد.
وبالفعل، في1998م كانت نسبة المسيحيين في بيت لحم 40٪ فقط، يُضاف إلى ذلك عاملين رئيسيين: إنجابهم لأطفال بمعدل أقل مقارنةً بالعائلات المسلمة، ثم امتلاكهم موارد مالية وروابط عائلية أكبر في دول كالولايات المتحدة وتشيلي، أما ما يقال بأنه يهربون بسبب المشاكل مع الإسلاميين المتعصبين فتلك نادرة تثير الضحك.



