العربي الجديد-
أعادت الخلافات الأخيرة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في ليبيا الاتفاقات والوثائق الدستورية إلى واجهة المشهد، مع حديث حول مساهمتها في تعميق أزمات ليبيا وتعقيد مسارات الحل السياسي في البلاد، إذ إنها، وفق مراقبين، تتضمن نصوصا فضفاضة يستغلها الأطراف لتمديد وجود المجالس الحالية، وبالتالي تأجيل إجراء انتخابات.
وخلال مداولات مجلس النواب حول قانون الموازنة المالية العامة في العاشر من يوليو/تموز الماضي، طالب رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة مجلس النواب بالتوقف عن المداولة. واعتبر أن إقرار الموازنة من مجلس النواب سيخالف نصوص اتفاق الصخيرات السياسي (2015 في المغرب)، والتي “تقضي بقيام الحكومة بعرض مشروع قانون الميزانية على المجلس الأعلى للدولة لإبداء الرأي الملزم فيه، ومن ثم إحالته إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره”. لكن مجلس النواب مضى في إقرار الموازنة، في 10 يوليو الماضي، وإصدار قانونها بشكل أحادي، مؤكداً أنه صاحب الاختصاص الأصيل. وقال رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، إنه “وفق الاتفاق السياسي فإن مجلس النواب هو السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد في المرحلة الانتقالية”.
أعقب ذلك تعليق المجلس الأعلى للدولة، بعد يوم واحد، حواراته مع مجلس النواب بسبب “الإخلال بمقتضيات اتفاق الصخيرات التي تنص على إحالة هذا القانون إلى مجلس الدولة لإبداء الرأي بشأنه”، و”تمادي المجلس في تجاوزاته واختياره اتخاذ إجراءات وترتيبات إدارة الشأن العام بإرادته المنفردة”. ولم تمر بضعة أيام حتى أعلنت رئاسة مجلس النواب، الأحد الماضي، فتح باب الترشح لحكومة جديدة، مبينة أنها استندت في إعلانها إلى “أحكام الإعلان الدستوري والتعديل الدستوري الثالث عشر، وأحكام قوانين الانتخابات الصادرة عن مجلس النواب، وما جرى الاتفاق عليه بمخرجات لجنة 6+6 (المشتركة بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة)، والاتفاق بين رئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الأعلى للدولة ورئيس المجلس الرئاسي (محمد المنفي) بمقر جامعة الدول العربية في العاصمة المصرية القاهرة، في العاشر من مارس 2024″، ليعلن مجلس الدولة اعتراضه على الفور، وبينما اعتبر المجلس الأعلى للدولة إعلان البرلمان “خطوة منفردة”، أكد أنه لن يعتدّ بنتائجها، داعياً مجلس النواب إلى التوقف عن اتخاذ خطوات أحادية تؤدي “إلى تكرار الفشل وتكريس حالة الانقسام”.
اتفاقيات في طريق حل أزمات ليبيا
وأصدر المجلس الوطني الانتقالي، أول سلطة بعد سقوط القذافي، الإعلان الدستوري عام 2011، وهو بمثابة دستور مؤقت لتوضيح النظام السياسي إلى حين كتابة دستور دائم. وعلى الرغم من أن هذا الإعلان لا يزال يشكل الخلفية الدستورية الأساسية التي استندت إليها كافة الاتفاقيات السياسية اللاحقة، إلا أن عدداً من التعديلات جرت عليه لتضمين ما يتفق عليه فرقاء البلاد، آخرها التعديل الـ13 عام 2023، الذي تشكّلت بموجبه لجنة 6+6 من مجلسي النواب والدولة لصياغة قوانين انتخابية توافقية.
ومن بين أهم الاتفاقات السياسية التي تحوّلت إلى وثائق دستورية، اتفاق الصخيرات الذي وقّعته الأطراف، في يوليو 2015، إثر جولات طويلة من الحوار السياسي بينها، وبموجبه تم تمديد ولاية مجلس النواب وعاد المؤتمر الوطني العام (السلطة التشريعية) في صيغة مجلس استشاري باسم المجلس الأعلى للدولة، وشُكّلت حكومة الوفاق لإنهاء الانقسام الحكومي. إلا أن حالة الاحتراب على الأرض عززت حالة الانقسام وجعلتها أكثر حدة، ما دفع الأوضاع إلى عقد حوار سياسي أنتج اتفاقاً وقّعه 75 مفاوضاً ليبياً ضمن منتدى الحوار السياسي في جنيف في يناير 2021. ونجمت عنه وثيقة عُرفت باسم خريطة الطريق، وسلطة تنفيذية قوامها المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية الحالية، تشرف على تنفيذ هذه الخريطة لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. إلا أن عودة الصراعات مجدداً عرقلت إجراء الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقرراً عقده نهاية عام 2021.
وبين الاتفاقين، الصخيرات وجنيف، أُطلقت بهدف حل أزمات ليبيا المتراكمة، العديد من المبادرات والاجتماعات المحلية والدولية، إلا أنهما بقيا أهم وثيقتين تم تضمينهما في الإعلان الدستوري، وتمثلان مرجعية لأي اتفاق جديد. وعلى الرغم من الآجال التي يحددها الاتفاقان، إلا أن ارتباط هذه الآجال بإنجاز المهام الموكلة للأطراف الموقّعة عليها شكّلت أكبر الثغرات لتحوّل الاتفاقات إلى أسانيد قانونية استمرت وفقها هذه الأطراف في المشهد. ففي حين نصّ اتفاق الصخيرات على أجل لا يتجاوز 18 شهراً تُنجز خلالها هيئة صياغة الدستور، دستور البلاد الدائم، لتجري على أساسه انتخابات عامة تنهي الفترات الانتقالية، إلا أن تلك الهيئة تعرّضت للكثير من الاختراقات والضغوط من قبل الفرقاء، ما جعلها تفشل في إنجاز مهمتها قبل انتهاء مدة الاتفاق، وبالتالي تعميق أزمات ليبيا ليعلن مجلسا النواب والدولة الاضطلاع بمهمة صياغة قواعد دستورية مؤقتة تجري على أساسها الانتخابات، استناداً إلى نصوص الاتفاق التي توكل المهمة للمجلسين إلى حين انتهاء هيئة صياغة الدستور من إنجاز الدستور وطرحه للاستفتاء. ومنذ تشكُّل أول لجنة مشتركة بينهما عام 2018 وحتى العام الماضي، لجنة 6+6، لم يتمكن المجلسان من الاتفاق على الإطار الدستوري للانتخابات بسبب العديد من القضايا والمسائل الخلافية، أبرزها ترشح العسكريين وحملة الجنسيات الأجنبية للانتخابات.
وفي وقت شكلت فيه مهمة اتفاق المجلسين على إطار دستوري مؤقت للانتخابات مستنداً اتكأ عليه المجلسان للبقاء في المشهد أكثر من المدة المقررة في الاتفاق، استفاد المجلسان أيضاً من نص آخر في الاتفاق لإطالة أمد الوصول إلى دستور دائم ينهي المراحل الانتقالية، إذ يوجب الاتفاق على هيئة صياغة الدستور إحالة مسودة نص الدستور إلى المجلسين لاستشارتهما قبل طرحه على الاستفتاء من قبل الشعب. وعلى الرغم من إحالة الهيئة المسودة إلى المجلسين منذ يوليو 2017، إلا أنهما أعلنا عن جملة من الملاحظات على المسودة من دون إحالتها إلى الهيئة، بحجة عدم مناسبة أوضاع البلاد التي تعيش حالة انقسام سياسي حاد للاستفتاء على الدستور. وقررا الاستمرار في مفاوضات الاتفاق على إطار دستوري مؤقت.
أما اتفاق جنيف، فعلى الرغم من أنه حدد انتهاء مدته بـ18 شهراً، أيضاً من تاريخ توقيعه، إلا أن حكومة الوحدة الوطنية استندت إلى ارتباط الاتفاق بإنجاز الانتخابات للبقاء في الحكم، على اعتبار انهيار اتفاق المجلسين في عقد الانتخابات في ديسمبر 2021، وهو ما دعمته البعثة الأممية وقتها. وحذّرت الأخيرة الأطراف الليبية من اتخاذ موعد 21 يونيو 2022، وهو نهاية الـ18 شهراً، “كأداة للتلاعب السياسي”، وهو ما رحبت به الحكومة لأنه يعني اعترافاً دولياً باستمرارها في السلطة.
ثغرات وإشكالات
وبالإضافة إلى تلك الثغرات التي استند إليها المجلسان في التمديد لوجودهما، لفت أستاذ القانون الدستوري أبو بكر الهاشمي إلى العديد من الإشكالات التي اعترت نصوص الاتفاقات السياسية، أهمها عدم التحديد الدقيق لمعاني الألفاظ والعبارات الأساسية في صياغة الاتفاقات، ما جعلها وسيلة للتلاعب بيد المجلسين، في ظل أزمات ليبيا. وضرب الهاشمي، في حديث مع “العربي الجديد”، مثالاً بوصف اتفاق الصخيرات للمجلس الأعلى للدولة بـ”الاستشاري”، موضحاً أنه “وصف كان يحتاج لتفسير واضح يحدد طبيعة المهمة الاستشارية للمجلس”. وأضاف أن “ترك هذا الوصف فضفاضاً جعله يحمل معاني متناقضة، وهو ما اعتمد عليه مجلس النواب في شرعنة قوانينه التي أصدرها منفرداً، بداعي أن الاستشارة لا تصدر إلا بعد طلبها، وإن صدرت فهي ليست ملزمة”. ولفت إلى أن “إسناد صلاحية التشريع لمجلس النواب من دون أي تحديد لطبيعة تلك التشريعات، كأحقيته في القوانين ذات الطبيعة الدستورية، أو القوانين ذات الطبيعة المالية، وآخرها قانون الميزانية العامة للدولة الذي لم يحدد اتفاق الصخيرات علاقة المجلسين به وكيفية إصداره وبأي نصاب يصدر، شكّل فراغات استغلتها الأطراف لتوسيع رقعة الخلاف بدلاً من تجسيرها”.
واعتبر الهاشمي أن تكليف مجلس النواب حكومة موازية لحكومة الوحدة الوطنية كان طريقاً للالتفاف على اتفاق جنيف الذي استندت حكومة الوحدة الوطنية إليه للاستمرار في السلطة، بربط انتهاء أجله بإجراء الانتخابات. وأوضح أن مجلس النواب “وضع البلاد في مأزق مواجهة الانقسام الحكومي وضرورة توحيد الحكومة لإجراء الانتخابات، ولذا كان شرط تشكيل حكومة موحدة نصاً أساسياً في القوانين الانتخابية”، والتي أنجزتها لجنة 6+6 المشكّلة من مجلسي النواب والدولة، وأصدرها مجلس النواب في أكتوبر الماضي على الرغم من اعتراض المجلس الأعلى للدولة.
وعلى أساس مطلب تشكيل حكومة موحدة كما نصّت عليها القوانين الانتخابية، فتح مجلس النواب، الأحد الماضي، باب الترشح لمنصب رئيس حكومة جديدة. ورغم اعتراض مجلس الدولة، إلا أن المجلس الرئاسي دخل على خط الأزمة، معلناً أن صلاحية اختيار رئيس الحكومة من صلاحياته كما تقتضيه قوانين مجلس النواب نفسها، ومنها المادة 178 المنظمة لعمل مجلس النواب من القانون الصادر عام 2014، والذي يتضمن تصريحاً بأن رئيس الحكومة يكلف من رئيس المجلس الأعلى للدولة.
وبحسب تصريحات صحافية لمستشار المجلس الرئاسي للشؤون الدستورية، زياد دغيم، الأحد الماضي، فإن المجلس الرئاسي الحالي يمثل رئيس الدولة حالياً. وعلّق الهاشمي، في حديثه لـ”العربي الجديد”، على ذلك بالقول إن “القانون المنظّم لعمل مجلس النواب ألغاه اتفاق الصخيرات ولم يعد دستورياً، لكن تدخّل المجلس الرئاسي الغرض منه التلاعب بالقوانين الدستورية المتضاربة”.
وأضاف أن “نقطة الخلاف” الحالية هي شرعية فتح مجلس النواب باب الترشح لرئاسة حكومة جديدة، وهو قرار غير دستوري؛ لسبب واحد، وهو أن اتفاق جنيف يسمح لمجلس النواب بمنح الثقة وسحبها للحكومة فقط، أما رئيس الحكومة فقد اختاره ملتقى الحوار السياسي ضمن السلطة التنفيذية التي تتكون من ثلاثة أعضاء للمجلس الرئاسي ورئيس للحكومة، ولا تنص بنود اتفاق جنيف على أحقية مجلس النواب في إقالة رئيس الحكومة أو تعيينه”. وأوضح أنه “لو كان لمجلس النواب أي سلطة دستورية على مخرجات اتفاق جنيف فالمفترض أن يقيل كامل السلطة التنفيذية، لكنه قرر إقالة رئيس الحكومة (فتحي باشاغا في 2023 على خلفية تهم من بينها التقصير في العمل وإهدار المال العام) وترك المجلس الرئاسي رغم أنهما سلطة واحدة، وهو تناقض كبير”.
سياق الحرب
لكن الباحث السياسي الليبي عيسى اهمومه أشار إلى أسباب أخرى تتعلق بأزمة الوثائق الدستورية، من بينها السياقات التي وُلدت فيها هذه الاتفاقات، وتحديداً سياق الحروب التي بدأها حفتر، والتي أنتجت الصراعات والانقسامات التي تعيشها البلاد إلى اليوم. واعتبر، في حديث مع “العربي الجديد”، أن تلك الحروب هي السياق الدائم الذي نشأت فيه الاتفاقات، مذكّراً بأن “الإعلان الدستوري شكّل أرضية دستورية انتُخب على أساسها المؤتمر الوطني العام، كأول برلمان، وهيئة صياغة الدستور، لكن حفتر قطع الطريق بالإعلان مطلع عام 2014 عن انقلاب عسكري فاشل من داخل طرابلس جمّد خلاله الإعلان الدستوري”. وأوضح أنه “بقرار حفتر إلى بنغازي وإطلاقه أول حرب منها، أدخل البلاد في انقسام سياسي حاد انتهى إلى برلمانين وحكومتين، ما استدعى حوارات نتج عنها الاتفاقان، الصخيرات عقب حرب الكرامة وفجر ليبيا عامي 2014 و2015، وجنيف عقب حرب حفتر على طرابلس عامي 2019 و2020”.
وأضاف أن “هذه الخلفيات التي شكّلت ظروف نشأة الاتفاقات جعلتها اتفاقيات لإدارة الأزمة وليس لحلها، فمجلس النواب ومعسكر حفتر في الشرق في جهة، والمجلس الأعلى للدولة ومعسكر غرب البلاد في جهة، ما عزز غياب الثقة وتشكل الاتفاقات لحفظ المصالح بالمناصفة في الأغلب، من دون ترجيح المصلحة الوطنية”. ولفت بشأن أزمات ليبيا إلى أن “هناك عامل تأزيم دائماً لا يُذكر في خضم الفوضى الدستورية، وهو التدخل الدولي الذي دعم الكثير من محطات تعميق الأزمة، ومنها استحقاق وجود دستور دائم”. وأوضح أنه “بدلاً من ممارسة ضغوط على كل الأطراف لطرح الاستفتاء الجاهز في نصوصه لوضع حد لاستمرار المراحل الانتقالية، رأينا كيف تجاوبت البعثة الأممية مع كل مسارات مفاوضات المجلسين حول قواعد دستورية بديلة عن الدستور الدائم”. وتابع: “بل البعثة هي من شكلت لجنة المسار الدستوري من المجلسين، في وقت مفاوضات ملتقى الحوار السياسي، ما فجّر الخلافات بين المجلسين مجددا، وانتهت إلى ما وصلت إليه لجنة 6+6 من خلافات عميقة ضمت إلى جانب الخلاف حول ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية خلافاً حول تشكيل حكومة موحدة”.
وبحسب اهمومه، فإن “المجتمع الدولي والبعثة الأممية فرضا على مشهد الأزمة في ليبيا ما يُعرف بالشرعية الدولية، فالحكومات الموجودة في طرابلس في أغلب أحوالها توصف بالحكومة المعترف بها دولياً، بغض النظر عن إقرارها أو عدم إقرارها من مجلس النواب”. ورأى أن المجتمع الدولي والبعثة الأممية “أحد عوامل وأسباب استمرار مسار التعقيد الدستوري، وربما لو رفعت البعثة الأممية يدها لحدث تقارب تدريجي بين الأطراف المحلية ينتهي إلى توافق بأي صيغة للشراكة في السلطة”.