الرئيسيةالرايفضاءات

رأي- حظر ترشح مزدوجي الجنسية “العقبة الليبية الكأداء“

* كتب/ د. الهادي بوحمرة

من المسائل التي كانت محل توافق واسع خلال مشاورات الهيئة التأسيسية في مختلف المدن الليبية مسألة تقييد الترشح للانتخابات البرلمانية والرئاسية بقيد عدم حمل المترشح لجنسية غير الجنسية الليبية.

وبما أن الهيئة التأسيسية عليها التزام احترام الإرادة الشعبية، دون غيرها من الإرادات الداخلية والخارجية، وبما أنه من الواجب طرح مشروع الدستور على الاستفتاء؛ وفق الخارطة الدستورية المحددة في الإعلان الدستوري لسنة 2011 وتعديلاته، والذي يشترط -بدوره- موافقة ثلثي المقترعين؛ ليتحول إلى دستور دائم للبلاد، فقد كان على الهيئة أخذ نتيجة هذه المشاورات مع القاعدة الشعبية في الاعتبار.

إلا أنه بعد إقرار الهيئة التأسيسية لمشروع الدستور تمكن النافذون، وبتماهي من البعثة الأممية؛ من تعطيل الاستفتاء، وتبين بوضوح من هذه الرغبة والقدرة على التعطيل أن الاعتماد على الشمولية، والمشاركة الشعبية، والمشاورات مع المواطنين العاديين، وإن تجاوز كون الدستور وثيقة يكتبها النافذون عسكريا وماليا وإعلاميا، ومقابلة ذلك بالتشبث بالملكية الوطنية، وبمنع تدخل الأطراف الأجنبية والبعثة الأممية في صياغة الدستور هو مجرد طرح نظري لا يدعمه المجتمع الدولي، ولا يقف معه كثير ممن يحسبون على نخبة لا تؤمن بضرورة الاحتكام إلى الشعب في بلاد يسيطر على مفاصلها مجموعات مسلحة وإعلام مدعوم من الخارج.  فلا البعثة الأممية لها القدرة على اتخاذ موقف مخالف لموقف اللاعبين الدوليين الرئيسيين، ولا الشعب في عمومه، والذي يفتقد لمجتمع مدني فاعل ولقيادة نخبة قادرة على الانفكاك من الدوران في مجال البعثة ومراكز القوة في البلاد، يمكن له الدفاع عن المسار الدستور، ولا يستطيع أن يفرض الاحتكام إليه في استفتاء عام.

فتجميد المسار الدستوري الليبي لا علاقة له بغياب المشاركة الشعبية، وإنما سببه الحقيقي -حسب وجهة نظرنا- هو منع الهيئة التأسيسية البعثة الأممية والدول والمسلحين من التأثير في محتوى الوثيقة، والحؤول بينهم وبين فرض رؤيتهم في نصوصها. كما أن هذا التجميد لا يتعلق بمدى استجابة مشروع الدستور للمعايير الدولية، ولا بمدى توافقه مع اتجاهات معتادة في دساتير العالم. فكلما كانت الوثيقة الدستورية مستقلة عن المصالح الشخصية والاعتبارات الدولية الخاصة ببعض الدول، فقدت الدعم الدولي، وكانت عرضة لعقبات تزرع في سبيل إنجازها بتعاون بين أطراف من الداخل وأطراف من الخارج.

كان هذا الشرط العقبة الكأداء في طريق الاستفتاء على مشروع الدستور، وفي طريق القاعدة الدستورية التي ابتدعتها البعثة الأممية كبديل نسجته الإرادة الخارجية لمسار دستوري شعبي

والأدلة متعددة على ما سبق بيانه، ومن أهمها ما يطرح بشأن الأحكام الخاصة بالجنسية وتحديدا نص المادة 186 من المشروع، وبشأن القيود على الترشح المتعلقة بها، وتحديدا المادة 99، والتي تشترط ألا يكون المترشح لرئاسة الجمهورية قد سبق له الحصول على أي جنسية أخرى، ما لم يكن قد تنازل عنها قانونا قبل سنة من تاريخ فتح باب الترشح، وألا يكون زوجا لأجنبي أو أجنبية. فقد كان هذا الشرط العقبة الكأداء في طريق الاستفتاء على مشروع الدستور، وفي طريق القاعدة الدستورية التي ابتدعتها البعثة الأممية كبديل نسجته الإرادة الخارجية لمسار دستوري شعبي، وذلك من خلال حوارات حلت فيها توجهات البعثة الأممية وإرادة مجموعات ليبية نافذة محل الإرادة الشعبية، وعُقدت بين شخصيات مختارة منها أو من أجسام ليبية؛ ابتداء من ملتقى الحوار السياسي، وانتهاء بلقاء القاهرة الأخير. وهو ما يمكن ان يُستنج منه أن جمود الحال الدستوري في ليبيا مرتبط بمصالح دول وأفراد أكثر من ارتباطه بمصالح أقاليم، أو مدن، أو أيديولوجيات لها وجود في البلاد، وأن اجتماع مصلحة هؤلاء في منع الاستفتاء هو العقبة الكأداءُ الحقيقة في طريق المضي إلى الأمام.

ذلك أن الاعتراض على القيود الواردة في مشروع الدستور على حق الترشح في الانتخابات البرلمانية والرئاسية لا علاقة لها بالمطالبة بدستور مناسبٍ لليبيين وحامٍ لمصالحهم، ولا بمدى توافق هذه القيود مع المعايير الدولية، ولا مع القيود الواردة في الدساتير المقارنة. بل إنه اعتراضٌ مبنيٌ على عدم استجابة المشروع لمصالح أفراد محددين، وهي مصالح كانت الهيئة التأسيسية تدرك قدرة أصحابها على عرقلة المضي نحو الاستفتاء، إلا أنه لم يكن بإمكانها تجاهل نتائج المشاورات مع الليبيين في غرب البلاد وشرقها وجنوبها. خصوصا وأن قيد عدم حمل المترشح لجنسية أجنبية يجمع بين مطالبات شعبية موثقة في أرشيف الهيئة من جهة، وامكانية التأسيس المناسب له؛ وفق المعايير الدولية للحقوق والحريات؛ من جهة أخرى. فالمادة الخامسة والعشرون من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966م تنص؛ من خلال صياغة مرنة تسمح بمراعاة المصالح العليا للدولة؛ على أن لكل مواطن أن ينتخب ويُنتخب، وأن تتاح له فرصة تقلد الوظائف العامة في بلده على قدم المساواة، وألا يكون هناك أي تمييز بين المواطنين في هذا الشأن دون قيود غير معقولة. وهو ما يعني أنه بالإمكان؛ وفق هذا العهد الدولي؛ فرض قيود على حق الترشح متى كانت هناك أسباب معقولة.

ولا شك أن من الأسباب المعقولة التي يمكن أن يؤسس عليها قيد عدم حمل المترشح لمنصب الرئيس لجنسية أجنبية الأضرار المعتبرة التي يمكن أن تطال سيادة الدولة وأمنها عند السماح لحاملي أي جنسية أجنبية بشغل هذا المنصب. فتغليب مصلحة المحافظة على الأمن القومي، وما تتطلبه هذه المصلحة الحيوية من وحدة الولاء والانتماء لرئيس الدولة، وما تقتضيه ذلك من استبعاد كل ما يحتمل أن يثيره تعدد جنسياته من إشكاليات قانونية، وما يستلزمه من استبعاد شبهات ظاهرة بدلالة الجنسية بشأن احتمالية تغليب الرئيس اعتبارات ترتبط بجنسيته الثانية عند تعارض مصلحة الدولتين، وتفضيله دولة على دولة في التعامل السياسي والاقتصادي من غير دواعي تتعلق بمصلحة ليبيا، هي في مجملها مقدمات مناسبة ومعقولة تسمح بتقييد حق الترشح في الانتخابات الرئاسية.

فالولاء والانتماء وإن كان مسألة داخلية لا يمكن أن تكون الجنسية دليلا قاطعا بشأنها؛ إلا أننا نحن هنا في إطار تحديد موجبات وأولويات الأمن القومي، لا بصدد النطق بحكم إدانة بشأن الولاء، فالمسألة يكفي فيها مجرد توفر دلائل للترجيح دون اشتراط اليقين. فالولاء- كما يقوم القضاء الإداري المصري- غير قابل للتجزئة، ولا يمكن أن يكون شركةً، حيث لا يستقيم أن يكون للمواطن وطنين في قلبه يستويان لديه، ويدافع عنهما، ويحمي مصالحهما، ويقدمها على غيرهما.

فالولاء المقصود للوطن يجب ألا يكون له لا منافسا، ولا مزاحما، ولا شريكا (محكمة القضاء الإداري بالمنصورة، رقم 1259 لسنة 47ق، 12/ 10/ 2000). كما أن القسم الدستوري يفترض وحدة الجنسية، ومن ثم فإن متعدد الجنسية الذي له ولاء مقسم بين أكثر من دولة لا يصلح لأدائه، فهو مخصص حصرا للمرشح الذي يحمل جنسية واحدة، ولا تنازعه في الإخلاص لبلده أي دولة أخرى. هذا القيد على الحقوق أقرت بمعقوليته- أيضا- المفوضية الأوربية لحقوق الانسان في عام 1997م في قضية /BG Ganchev (DR 87-A،130) 25/11/1996، والتي قررت فيها أن حيازة جنسية ثانية قد يكون سببا للحرمان من حق الجلوس في البرلمان؛ كما تنص على ذلك المادة الرابعة من قانون الانتخابات البلغاري. (franz Matscher، Rapport sur l،abolition des restrictions au droit de vote lors d`elections legilatives، (commission de Venise) (Venise، 3-4 decembre 2004)

ولهذه الأسباب المذكورة أعلاه نهجت عدة دساتير منهج مشروع الدستور الليبي، بل أن بعضها ذهب بقيد وحدة الجنسية بعيدا. حيث إن هناك دساتير لم تقتصر على حظر ترشح مزدوجي الجنسية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وقررت منع ازدواج الجنسية، والقطع مع هذا السبيل بشكل بات، ومنها دستور ليبيا لسنة 1951م، والقانون الأساسي الألماني؛ ومن ثم فإن من يحمل الجنسية الألمانية هو ألماني فقط. كما أن بعض الدول التي تسمح باكتساب مواطنيها لجنسية أخرى لا تقر بهذه الجنسية التي لا تمنعها، ولا تبني عليها آثارا قانونية، كدولة فرنسا. وهذا ما يُعد خطرا إضافيا ناتجا عن تولى حاملي جنسية مثل هذه الدول لمناصب سيادية في دولة أخرى. فهذه الدول لن تتعامل معهم إلا باعتبارهم مواطنين خُلّص لها، ولا يمكن أن يكون لهم أي وضع استثنائي لأنها (تسمح، ولا تعترف)؛ بمعنى أنهم مجرد مواطنين من جملة مواطنيها وحسب. كما أن الدساتير التي تنص صراحة على حظر ترشح مزدوجي الجنسية للرئاسة منها ما يشترط أن يكون المترشح من حاملي الجنسية الأصلية دون المكتسبة، أو أن تكون جنسية الدولة المترشح فيها هي جنسية الميلاد، ومنها ما يذهب إلى أبعد من ذلك بالنص على شرط عدم سبق حصوله على جنسية أخرى، أو ألا يكون زوجه من حاملي جنسية أجنبية، أو تشترط ألا يكون أي من والديه سبق وأن حمل جنسية أجنبية. فوفق الفقرة (i)/ 44 من الدستور الأسترالي تنص على أن كل شخص أقر بالولاء أو الانتماء لقوة أجنبية، أو أنه أحد رعاياها أو مواطنيها، أو أنه يحق له التمتع بحقوق وامتيازات منها ليس له الترشح أو شغل منصب عضو في مجلس الشيوخ أو عضو في مجلس النواب.

وفي دول الكيان الصهيوني توجب المادة السادسة عشرة من قانونه الأساسي 1958 على عضو البرلمان قبل أداء اليمين اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للتخلي عن الجنسية الأجنبية (موقع الكنيست)، وفي دستور اندونيسيا تنص المادة السادسة على وجوب أن يكون المترشح لمنصب الرئيس أو نائب الرئيس مواطنا اندونيسيا منذ الولادة، وألا يكون حاصلا على أي جنسية أخرى بمحض إرادته.

أما بالنسبة لدساتير الدول العربية، فقد نصت الفقرة الرابعة من المادة الثامنة من دستور العراق 2005م -على سبيل المثال لا الحصر- على أنه على من يتولى منصبا سياديا أو أمنيا رفيعا التخلي عن أي جنسية مكتسبة، وهو النص الدستوري الذي تجاوزته التوافقات الحزبية لمصلحة مزدوجي الجنسية على حساب مصلحة احترام الدستور العراقي. مع ملاحظة أن الفقه الذي يوسع من مفهوم المنصب السيادي يدخل فيه  كل منصب يكون لشاغله  القدرة على القيام بعمل من أعمال السيادة، أو المشاركة فيها بصورة مباشرة وغير مباشرة؛ وفق الدستور والقوانين النافذة، ومن له قدرة من خلاله في المساهمة في السياسة العامة للدولة كالرئيس والوزراء وأعضاء السلطة التشريعية والمحافظين والقيادات العسكرية والأمنية وممثلي السلك الدبلوماسي، واشترط الدستور المصري 2014م في المادة الواحد والأربعين بعد المائة على من يترشح لمنصب رئيس الدولة أن يكون مصريا من أبوين مصريين، وألا يكون قد حمل أي من والديه أو زوجه جنسية دولة أخرى. كما قرر الدستور السوري لسنة 2012م في مادته الرابعة والثمانين وجوب أن يكون الرئيس متمتعا بالجنسية السورية بالولادة، وألا يكون زوجا لغير سوري أو سورية، وهو ما فصله الدستور الجزائري في المادة السابعة والثمانين منه بنصه على أنه لا يحق أن ينتخب لرئيس الجمهورية إلا المترشح الذي لم يتجنس بجنسية أجنبية، وغير المتزوج من حامل لجنسية أجنبية، وأنه يقع على عاتق المترشح إثبات الجنسية الأصلية لوالديه. وعلى الرغم من أن الدستور التونسي لسنة 2014م اكتفى في المادة الرابعة والسبعين بوجوب أن يتقدم المترشح لمنصب رئيس الجمهورية تعهدا بالتخلي عن الجنسية الأخرى عند التصريح بانتخابه رئيسا للجمهورية، ولم يشترط -في المقابل- التخلي أو التعهد بالتخلي على الجنسية بالنسبة للمترشحين لعضوية مجلس النواب، إلا أن المادة الثامنة والخمسين أوجبت على كل عضو بهذا المجلس في بداية مباشرته لأعماله أن يؤدي اليمين الآتية: (أقسم بالله العظيم أن أخدم الوطن بإخلاص، وأن ألتزم بأحكام الدستور وبالولاء التام لتونس)، وهو قسم قد يتعارض مع القسم الذي من الممكن أن يكون التونسي الحامل لجنسية أجنبية عند اكتسابه لها قد أداه وفيه تعهد بالولاء التام؛ كما هي الحال في قسم الجنسية الأمريكي. وهو ما يعني أنه إما أن يكون صادقا في الأول وكاذبا في الثاني، أو كاذبا في الأول وصادقا في الثاني، وهو أمر يتجاوز مجرد الشبهة، ويجب أن يكون الممثلون عن الشعب الحاملون لأمانة سن التشريعات في منأى عنه.

وأخيرا من الممكن ملاحظة أنه من المناسب في ليبيا الدولة الهشة التي لم تتحول بعد إلى دولة مؤسسات، والتي تعاني من التدخل الأجنبي، أن تحتاط بشكل أكبر من دول كأستراليا والجزائر وتونس ومصر، وأن تضع التدابير الوقائية والقيود اللازمة على حق الترشح في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نطاق مرونة المادة الخامسة والعشرين من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، ودون أن يمنع من ذلك الإقرار بأن الولاء ليس حكرا على المواطن منفرد الجنسية، وبأنه شعور داخلي غير ظاهر، لا يمكن قياسه، ولا المحاسبة عليه. فالمسألة تتعلق بتدابير احتياطيه تسمو بها مصالح الدولة العليا، وفي حدود ما تسمح بها المعايير الدولية والمناهج الدستورية المقارنة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى