الرئيسيةعيونفضاءات

العدالة المغيبة.. حضرت المليشيات وغابت دولة القانون في ليبيا

العربي الجديد-

انتقلت القاضية الليبية وفاء المدهون للعيش في غرب ليبيا، نهاية عام 2018، بعد تلقيها تهديدات عبر مكالمة هاتفية باختطافها في حال شاركت بجلسة في محكمة شرق بنغازي الابتدائية، ما أجبرها على التغيب والنجاة بحياتها.

وقبيل انعقاد الجلسة، اقتحم مسلحون المحكمة وهربوا سجناء، تعتقد المدهون بأنهم على صلة بمن هددوها، حسبما تقول لـ”العربي الجديد”.

لكن القاضي الطاهر المعداني، الذي يعيش حاليا في طرابلس، لم ير من بديل لما يجري في محكمة شمال بنغازي الابتدائية غير الاستقالة في إبريل 2013 ليترك عمله تماما، إذ وصل الأمر إلى حد أنه جرى تهديد وكيل نيابة من زملائه من قبل شخصين، توعداه وأسرته في حال لم يتدخل لصالح أختهما في قضية خلع ضد زوجها، حسبما يقول المعداني لـ”العربي الجديد”، مضيفا: “كنت محظوظا عندما قررت الاستقالة وغادرت بنغازي، إذ تكررت لاحقا عمليات الاعتداء على أعضاء النيابات والمحامين”.

ولم تتوقف ظاهرة الاعتداء على المحاكم واستهداف القضاة والمحامين عبر الخطف والاغتيال منذ مرحلة ما بعد ثورة فبراير وحتى اليوم، وفق ما وثقه أحمد عبد الحكيم حمزة، رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان (ليبية غير حكومية تُعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان)، والذي أكد على رصد حوادث اغتيال محام و3 قضاة، منذ عام 2013 وحتى نهاية ديسمبر 2021، من بينهم المدعي العام العسكري للمنطقة الشرقية، العقيد يوسف علي الأصيفر، الذي اغتيل في 29 أغسطس 2013، ومقتل أحد أعضاء الشرطة القضائية في تفجير وقع بمحكمة جنوب بنغازي الابتدائية في السادس من يناير 2014، كما اختطف 7 قضاة، من بينهم ناصر الدرسي، القاضي في محكمة طبرق الابتدائية، الذي اعتقل من قبل إدارة مكافحة الإرهاب (تتبع لمليشيات حفتر)، في 23 فبراير 2017.

إخضاع القضاء لسيطرة المليشيات

لا يتوقف استهداف القضاء على ما يجري بالمنطقة الشرقية الخاضعة لسيطرة مليشيات خليفة حفتر عبر ما يسمى بـ”الجيش الوطني”، إذ يتكرر الأمر غربا عبر مليشيات تحمل شعاري وزارتي الداخلية والدفاع، كما يقول العميد خليل الأسود، النائب السابق لرئيس جهاز الشرطة القضائية (خلال الفترة بين 2012 و2014).

ومن عمليات الاستهداف، اقتحام مسلحين لإحدى محاكم طرابلس، نهاية عام 2015، حسب رواية القاضي ناجي عمر (اسم مستعار لدواع أمنية)، والذي اقترب منه مسلح أثناء تنقله في ممرات المحكمة، وأشهر مسدسه في وجهه واقتاده إلى سيارة في موقف المحكمة.

يقول ناجي: “طلبت منه توضيح سبب تهديدي واقتيادي منه ومن زملائه، فأبلغوني بأني مطلوب لجهة أمنية، وعند وصولي يمكنني معرفة السبب، لكنني اكتشفت أن الأمر له علاقة بقضية أعمل عليها”.

ولدى وصول ناجي إلى مقر تابع لمجموعة مسلحة في إحدى ضواحي طرابلس احتجز لمدة ثمانية أيام ريثما تمكن أفراد المليشيا من تسوية قضيتهم المتعلقة بابتزاز رئيس مؤسسة مالية (يتحفظ “العربي الجديد” عن ذكر اسمها حتى لا يتضرر المصدر)، مضيفا أن رئيس تلك المؤسسة سحب شكواه من المحكمة بعد تدخل أسرة ناجي، التي أبلغها الخاطفون بأنه محتجز لديهم ويتوجب على أفرادها الضغط عليه من أجل سحب شكواه.

وتكررت وقائع التهديد في شكوى كانت النيابة الابتدائية في مدينة الزنتان، غرب طرابلس، تحقق فيها، إذ حضر مسلحون تحملهم سيارات عسكرية عليها شعارات رسمية في يونيو 2017، أثناء إجراءات التحقيق في القضية المتعلقة بملكية قطعة أرض بالمدينة وهددوا وكيل النيابة (يتحفظ “العربي الجديد” عن ذكر اسمه لحمايته وعدم تعريضه لخطر الاستهداف)، إذا واصل العمل على القضية، بحسب رواية شاهد العيان نور الدين الفيصلي، والذي كان يعمل حارسا بمقر النيابة، وبالفعل تم إغلاق التحقيق وأعلنت النيابة عدم اختصاصها بالنظر في القضية، كما يقول.

وتتطابق الوقائع السابقة مع ما يجري في المناطق الخاضعة لمليشيات حفتر، إذ هاجم مسلحوها مقر محكمة سبها، في نهاية نوفمبر 2021 وطردوا القضاة والموظفين، وحاصروها لأيام بهدف منع انعقاد جلسة النظر في طعن قدمه سيف القذافي بشأن استبعاده من قائمة المرشحين للانتخابات الرئاسية، بحسب إفادة رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان.

عسكرة القضاء

عقب انتصار ثورة 17 فبراير، جرى إقصاء موظفي وأفراد الشرطة والجيش التابعين لنظام القذافي، بسبب انعدام ثقة الثوار في هذه الأجهزة، ولم يكن أمام السلطات الوليدة التي تواجه تحدي بناء نظام جديد، سوى شرعنة كتائب الثوار ضمن ما عرف بإنشاء اللجنة الأمنية العليا المؤقتة وتحديد اختصاصها وهيكلها التنظيمي، والتي انضوت تحتها أغلب الكتائب المسلحة، ومُنحت بموجب قرار الإنشاء رقم 388 لسنة 2011 سلطات واسعة، من بينها مهام لها علاقة بالتحقيق والتوقيف، وبالتالي بدأت عملية التلاعب بمنظومة العدالة، كما يقول لـ”العربي الجديد” عبد الباري بوجليد، عضو لجنة العدل والشؤون القضائية بالمؤتمر الوطني العام.

ونص القرار على “تكليف اللجنة الأمنية العليا المؤقتة القيام بأعمال التحري والقبض وجمع الاستدلالات عن عناصر النظام السابق وما يهدد ثورة السابع عشر من فبراير”، وفق بوجليد، مؤكدا أن القرار 388 وسع صلاحيات القضاء العسكري، ومن هنا تم التدخل في شؤون القضاء، علما أن إنشاء المحاكم العسكرية يعود إلى عهد نظام القذافي وكانت تعمل وفق أهدافه وأهوائه لملاحقة معارضيه، حسب قوله.

لكن أعضاء مجلس النواب (يوجد في شرق البلاد ويضم موالين لخليفة حفتر)، رسخوا سيطرة القضاء العسكري، عبر القانون رقم 4/2017 الذي أرسى الولاية القضائية للمحاكم العسكرية على المدنيين المتهمين بـ”الإرهاب والجرائم المرتكبة في المناطق العسكرية”، بحسب توثيق تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في 26 إبريل 2021 بعنوان “ليبيا: المحاكم العسكرية تصدر أحكاماً على مئات المدنيين في محاكمات صورية يشوبها التعذيب”.

وتقول القاضية المدهون إن القانون رقم 4 يحمي مرتكبي الجرائم في صفوف مليشيات حفتر، نظرا لأن القضاء العسكري التابع له يعد الجهة المفترض مقاضاتهم أمامه، بينما همش المحاكم والقضاة المدنيين، وبالتالي صارت الكفة راجحة للعسكريين على حساب المدنيين.

إفلات من العقاب

“أدانت المحاكم العسكرية مئات المدنيين في شرق ليبيا عبر محاكمات عسكرية سرية بالغة الجور تهدف إلى معاقبة الخصوم والنقاد الفعليين أو المفترضين للقوات المسلحة العربية الليبية والجماعات المسلحة التابعة لها”، بحسب توثيق منظمة العفو الدولية، والتي أكدت على أنه “حُكم على 22 شخصاً على الأقل بالإعدام وزُج بالمئات غيرهم في السجون بين عامي 2018 و2021، كما تعرّض العديد من المتهمين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة في الحبس الاحتياطي”. وتشير منظمة العفو الدولية إلى أنها “أجرت مقابلات مع 11 شخصا، بينهم محامون، تبين لها أن أولئك الذين يواجهون محاكمات عسكرية قد احتُجزوا على نحو غير قانوني طيلة أشهر أو حتى سنوات، وتعرضوا للتعذيب وأُخضعوا لإجراءات قانونية بالغة الجور”.

و”يفتقر المدعون العامون والقضاة العسكريون على حد سواء إلى الاستقلالية والحياد، لأنهم ينتسبون إلى القوات المسلحة العربية الليبية (مليشيات حفتر كما تعرف نفسها)، أو الجماعات المسلحة المتحالفة معها”، وفق المصدر نفسه.

ولا يتوقف تهميش القضاء والتلاعب به عند هذا الحد، بحسب الهادي الوكواك، النائب السابق لرئيس مكتب المتابعة بجهاز الشرطة القضائية فرع طرابلس، والموظف الحالي في وحدة تحسين وتطوير السجون بوزارة العدل في حكومة الوحدة الوطنية، إذ تستمر ظاهرة السجون التي لا تخضع لسيطرة الدولة ويديرها مسلحون يتولون مهمة التوقيف والتحقيق، مثل مليشيا كتيبة طارق بن زياد، التي تمتلك سجونا في قرنادة بمدينة البيضاء، شرق ليبيا، والكويفية وسيدي فرج في بنغازي، وسجن مخيم السعداوي بطرابلس، مشيرا إلى وقوع مختلف الانتهاكات في تلك الأماكن الخارجة عن سيطرة الدولة.

ويعيد العميد طه السقفي، الأستاذ بأكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية والاستراتيجية في طرابلس، ما يجري إلى الفوضى التي عاشتها البلاد بعد الثورة، مشيرا إلى أن المؤسسة القضائية كان عليها رفض تدخل المجاميع المسلحة بقوة منذ اللحظة الأولى، لكن بسبب عدم فعاليتها خضعت لمصالح خاصة، وعملت المليشيات على ترهيب القضاة والمحامين، وتحول المتهمون في بعض الأحيان إلى أوراق للكسب السياسي، مثل سيف القذافي، الذي اعتقلته كتيبة أبوبكر الصديق التي كانت تتبع للمجلس العسكري في مدنية الزنتان، غرب ليبيا، لصالح تقوية وضعها العسكري والسياسي في السنوات الأولى من الثورة، كما أجبرت القضاء على إصدار أحكام بالإعدام بحق عدد من رموز النظام السابق، قبل أن يطلق سراح عدد منهم تحت ذرائع دواع صحية.

تراكم الملفات خوفاً من البت فيها

بسبب الفوضى التي ضربت منظومة العدالة (الشرطة القضائية والنيابات والمحاكم)، عقب سقوط نظام القذافي، تراجعت قدرتها على ممارسة دورها، وفق بوجليد ومصدر قضائي (فضل عدم ذكر اسمه لدواع أمنية). ويحذر المصدر من تراكم الملفات الجنائية دون البت فيها، مؤكدا لـ”العربي الجديد”، أن عدد الملفات الجنائية التي أبلغت بها النيابات في مختلف أنحاء البلاد ولم تنته التحقيقات فيها من أجل إحالة الدعاوى إلى المحاكم المختصة بلغت 2046 ملفا خلال الفترة من 2012 وحتى نهاية 2021، وتابع: “وكلاء النيابات اعتذروا عن قبول النظر فيها”، مضيفا أن المحاكم تنظر في القضايا المدنية والإدارية حاليا، بينما القضايا الجنائية لا يوجد أي وكيل نيابة يمكنه أن يقبل بها في ظل عدم وجود أي حماية له.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن “8800 شخص رهن الاحتجاز، 60% منهم في انتظار المحاكمة”، وفق توثيق بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا UNSMIL، الصادر في الخامس من مايو 2020، وترك أغلب أفراد الشرطة القضائية عملهم خوفا من الانتقام كونهم جزءا من أجهزة الأمن السابقة، وحتى من بقي منهم مارسوا عملهم دون سلاح، ما جعلهم خاضعين لإرادة المجموعات المسلحة، كما يقول العميد الأسود.

ويرى العميد السقفي أن أعضاء السلك القضائي ومؤسساته لم يقوموا بدورهم في مواجهة استهداف العدالة الليبية، قائلا: “شكايات القضاة والمحامين من المضايقات التي طاولتهم على يد المسلحين بعد عام 2011 لم يصاحبها احتجاج رسمي مثل إعلان المجلس الأعلى للقضاء تعليق العمل في المحاكم، بسبب الانتهاكات التي طاولت أفراد المؤسسات القضائية، أو الإعلان عن فتح تحقيقات في حوادث الاغتيالات والاختطافات التي حدثت لمنع الظاهرة من التفاقم”، بينما يرى العميد الأسود أن “قرار السلطات في أولى سنوات الثورة بتكليف مجموعات المسلحين بمهام التوقيف والإشراف على السجون، كان خطأ فادحا يدفع الجميع ثمنه، لأنه أسفر عن شرعنه التلاعب والتدخل في عمل القضاء حتى خرجت الأمور عن السيطرة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى